رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شاعر النيل .. ووطن الشعر

كَم ذا يُكابِدُ عاشِقٌ وَيُلاقي
فى حُبِّ مِصرَ كَثيرَةِ العُشّاقِ
بذلك البيت الرائع من أشعار شاعر النيل العظيم حافظ ابراهيم، استقبل الرئيس التونسى الراحل الباجى قايد السبسى الرئيس عبد الفتاح السيسى عند زيارته تونس الشقيقة.. قال: « أوجه بتحية إلى الشعب المصرى الأبى مرددًا ذلك البيت البديع..».
وقد كان شغف وولع وحب حافظ إبراهيم الذى احتفينا بذكرى رحيله منذ أيام  للنيلِ هائلًا حتى أطُلق عليه شاعر النيل، وظل ذلك اللقب وأكد عليه ما هو معلوم بقصّةُ مولدِه على مَركبٍ فى النيلِ كتعميد لذلك اللقبَ الذى اشتهرُ به، وكان حافظ إبراهيم من الشعراءِ الذين أحيَوا الشعرَ العربى خلال النصفِ الأخير من القرن التاسع عشر..
ومعلوم أن حافظ ابراهيم هو صاحب القصيدة التاريخية الرائعة «مصر تتحدث عن نفسها» والتى شدت بها كوكب الشرق أم كلثوم ولاقت نجاحًا مصريًا وعربيًا هائلًا عند إذاعتها، وكان الشاعر قد نظم أبياتها سنة 1921 عقب قطع مفاوضات عدلى – كيرزون، حين انكشفت نوايا الإنجليز الغادرة فى العدوان على مصر، وقد أشاد فيها الشاعر بمصر العظيمة الشامخة، وعلى لسان مصر صاح مناديًا شعبها الأبى البار بوطنه ليستمسكوا بفخر وعزة بتاريخهم العبقرى، ويترابطوا بعزم لنيل الحقوق، ليُسمعوا الدنيا صوت مصر التاريخ والحاضر.. مصر الأبية العظيمة، حيث «مصر فوق الجميع».. ومن أبيات القصيدة التى تحدثت بها مصر أم الدنيا لتسمعها كل الدنيا..
وقف الخلقُ ينظرون جميعًا
كيف أبنى قواعدَ المجد وحدى
وبُناة الأهرام فى سالف الدهر
كفَونى الكلام عند التحدِّى
أنا تاج العَلاء فى مَفرق الشَّرق
ودُرَّاته فرائدُ عِقدى
وفى مطلع قصيدة أخرى لشاعر النيل ألقاها فى حفل جمعية الطفل فى ما يو1928 أى منذ ما يقارب القرن من الزمان، ومع ذلك لا يزال التفاعل مع أبياتها يتجدد، فعلى سبيل المثال بتنا نرى وكأن شاعرنا كان حاضرًا فى الزمان والمكان يصرخ بمعانيها وسط الجماهير المنتظرة خروج الطفل «ريان» من «بير العتمة والقهر والبؤس» عندما ردد الأبيات التالية:
أَيُّهـا الطِـفـلُ لا تَـخَف عَنَتَ الدَهر وَلا تَــخــشَ عــادِيـاتِ اللَيـالي
قَــيَّضَ اللَهُ لِلضَــعــيــفِ نُــفـوسـًا
وعبر كل رسائل التعاطف مع الأطفال وحقوق «المواطنة» التى ينبغى أن تشمل الأطفال فى كل أبيات تلك القصيدة وغيرها فى كل الدنيا، كانت له أبيات أخرى داعمة للمرأة المصرية الوطنية والإشادة بدورها الوطنى وممارستها لحقوق «المواطنة» على أرض الكنانة، فكانت تحيته لثورة سنة 1919 فى قصيدة نظمها عن أول مظاهرة للسيدات قُمنَ بها يوم 16 مارس 1919 احتجاجًا على عسف الإنجليز حيال المظاهرات السابقة وما ارتكبوه مع المتظاهرين من فظائع القتل والتنكيل، وقد مجَّد «حافظ» شعور السيدات المتظاهرات وشجاعتهن، وحمل فى قصيدته حملة لاذعة على مسلك الجنود الإنجليز حيالَهن، قال:
خرج الغوانى يَحتجِجنَ
ورُحتُ أرقبُ جمعَهنَّهْ
فإذا بهنَّ تخِذنَ من
سود الثياب شعارَهنَّهْ
فطلعنَ مثل كواكبٍ
يسطعنَ فى وسَط الدُّجنَّة
وأخذنَ يجتزنَ الطريق
ودارُ «سعد» قصدُهنَّهْ
يمشين فى كنف الوقا
وقال من قصيدة له فى سنة 1908 يدعو إلى معاضدة مشروع الجامعة المصرية:
حيَّاكم اللهُ أَحيوا العلم والأدبا 
إن تنشروا العلم ينشر فيكم العَرَبا
ولا حياة لكم إلا بجامعة
تكون أمًّا لطُلاب العُلا وأبا
تبنى الرجال وتبنى كل شاهقة
من المعالى وتبنى العز والغَلَبا
فى يوم 11 فبراير سنة 1908 حين شيَّعت مصر جنازة مصطفى كامل وقف حافظ على قبره وأنشد قصيدته الرائعة فى رثائه قال:
أيا قبرُ هذا الضيفُ آمالُ أمة
فكبِّر وهلِّل والقَ ضيفَك جاثيًا
عزيزٌ علينا أن نرى فيك مصطفى
شهيد العُلا فى زهرة العمر ذاويًا
أيا قبر لو أنا فقدناه وحده
لكان التأسى من جوى الحزن شافيًا
ولكن فقدنا كل شىء بفقده
 
وهو القائل مفتخرًا بلغة الضاد:
أنا البحر فى أحشائه الدر كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتى
وهو البيت الذى ظللنا نسمعه بإلقاء عبقرى للشاعر والإعلامى الكبير فاروق شوشة فى مقدمة برنامجه الرائع «لغتنا الجميلة».. وحتى رحيله، وأتمنى أن تعاود الإذاعة المصرية بث تلك الحلقات فهى غير مرتبطة بتوقيت وداعمة لإثراء الوعى بأصداف وجواهر لغة الضاد..
وقال عنه العقاد «مفطورًا بطبعه على إيثار الجزالة والإعجاب بالصياغة والفحولة فى العبارة»، ويذكره الشاعر العراقى «فالح الحجية» فى كتابه الموجز فى الشعر العربى الجزء الثالث فيقول (يتميز شعر حافظ إبراهيم بالروح الوطنية الوثابة نحو التحرر ومقارعة الاستعمار بشعر سهل المعانى واضح العبارة قوى الأسلوب متين البناء أجاد فى كل الأغراض الشعرية المعروفة)..
وعليه، هل لنا أن نأمل من الشركة العملاقة المتحدة للخدمات الإعلامية أحدث مواليد دولة 30 يونيو، وهى من أكبر الكيانات الإعلامية فى المنطقة العربية بأكملها فهى تمتلك أكثر من 40 شركة رائدة فى مختلف المجالات والأنشطة الإعلامية أن تضم سيرة ومسيرة وإبداعات حافظ ابراهيم مجموعة الأفلام التى تنتجها الشركة وفاءً لعطاء رموزنا، والتى بدأت بإنتاج فيلم حول سيرة حياة «أسامة أنور عكاشة» الدراماتورجى الوطنى العظيم.. لقد كان إيمان دولة 30 يونيو هائلًا بأهمية دعم قوانا الناعمة كقاطرة دافعة لإثراء الوعى العام، فكانت تلك الشركة التى قدمت «قناة القاهرة نيوز» و«الوثائقية» وإنتاج دراما مصرية عظيمة لتصويب رسائل الفنون الدرامية بدعم فكرى وإبداعى ومادى غير مسبوق، ثم كانت المهرجانات الموسيقية والغنائية البديعة.. وأعتقد أن من أدوار العملة الجيدة الثمينة التى تطرحها الشركة طرد العملة الرديئة والفكر البالى وجراثيم التخلف لتشرق شموس التنوير.