رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المواجهة بين (العلم) و(الدين) فى السينما المصرية!

(1)

قليلةٌ هى الأعمال السينمائية المصرية التى تعرضت بشكلٍ صريح للعلاقة بين العلم وطموحاته من ناحية، وبين ما يعتبره المصريون من ثوابت الدين والعقيدة من ناحية أخرى، رغم أن تلك العلاقة كانت سببا مباشرا – فى حالات كثيرة - لاتخاذ المصريين لموقفٍ معين من قضايا اجتماعية ذات تأثير بالغ على الدولة المصرية (الدولة بكل مكوناتها وليست النظام الحاكم)! من بين تلك الأعمال القليلة فيلمان، أحدهما بالغ الشهرة ويتم عرضه بشكل مستمر – جرى الوحوش – بينما الفيلم الآخر من الأفلام النادرة ولم أرَه يُعرض على شاشات قنوات الأفلام رغم كثرتها وهو فيلم (قاهر الزمن)!

فيلم جرى الوحوش – الذى أعشق مشاهدته كثيرا – يُعتبر تدشينا وانتصارا للتدين المصرى الشعبى الذى يضع أحيانا تطلعات العلم فى مواجهة غريبة ضد الإرادة الإلهية! مثّل التدين الشعبى فى الفيلم المحامى الذى لا تغادر المسبحة يده فى كثيرٍ من المشاهد والذى لا تخلو كثيرٌ من ردوده من احتوائها على آيات قرآنية كريمة!

ثم قام بتمرير نظرية الشيخ الشعراوى رحمه الله بأن الله قد ساوى فى الرزق بين جميع البشر لكنه نوّع هذا الرزق بين مالٍ أو صحة أو بنين أو غير ذلك، وهى نظرية الأربعة وعشرين قيراطا التى منحها الله فى الدنيا للجميع!

فى المجمل قد تعرض الفيلم لقضيتين، الأولى خطيئة العالِم الدينية فى اعتقاده بقدرته على إنهاء العُقم لتعارض ذلك مع آية كريمة (ويجعلُ من يشاءُ عقيما)، والقضية الأخرى أن جميع البشر متساوون فى الرزق لأن هذا من تمام عدل الله!

(2)

السؤال الذى لم يتعرض له الفيلم أو يتخيل صناعه أن أحدا ممن يشاهدون الفيلم قد يفكر فيه ولو من قبيل وسوسة الشيطان! هو ماذا لو حدث بعد سنين أن تحققت رؤية العالِم واستطاع العلمُ الحديث أن يقضى على حالات العُقم فى بلدٍ ما ولو لشهرٍ واحد؟! هل ساعتها يكون القرآن – حاشا لله – على خطأ مثلا؟!

إننى أعتقد أن تحقق رؤية العالم فى الفيلم فى أية مرحلة زمنية مستقبلية لا يتعارض مع لفظ الآية الكريمة أو معناها الواضح لغويا، وأن تقديم الآية الكريمة فى هذا السياق الذى ورد فى الفيلم كان خاطئا وكان أقرب لتقديم وتبنى الرؤية الشعبية الدينية منه لتقديم المعنى الحقيقى للآية الكريمة كاملة!

فالآية الكريمة تقول (لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير).. هى آية تتحدث عن تفرد الله بملكه وتفرده بحقه المطلق فى خلق ما يشاء ومنح من يشاء الذكور والإناث.. وحقه فى أن يجمع لمن يشاء الذكور والإناث أو يجعل من يشاء عقيما..هى آية واضحة عن أن الله وحده هو صاحب هذا الحق..لكن لا يفُهم من الآية مثلا أن الله يقرر على الذات الإلهية أن يكون هذا فى كل وقت وعصر. فهذا الحق المطلق له يشمل أيضا احتمالية أن يرفع الله العقم من الأرض لو أراد فى فترة معينة أو للأبد أو يقرره على البشر جميعا فى فترة أخرى..هو حق مطلق يمنحه الله أو يمنعه أنّى شاء وكيفما شاء ومتى شاء! فالآية تقرير لمطلق غير محدد بإطار زمنى أو جغرافى! الحق المطلق هو ما تقره وتقرره الآية الكريمة دون أن تخبر بأية تفاصيل عن كيفية هذا المنح والمنع، وكيفية تطبيقه فى كل عصر وكل بقعة!

لذلك فالبشر لا يعلمون تفاصيل التطبيق لهذه الإرادة الإلهية، لكنهم يسعون فى الأرض لكى يكون لهم ذرية أو حتى لتحديد هذه الذرية.. لكن المحك هو اعتقادهم أن ما يصلون إليه من نتائج إنما هو ما قضاه الله وقرره!

فعلى العالِم أن يطلق الخيال لطموحاته وعلمه ولا يتوقف بسقفها عن نقطة معينة، لكن الفاصل بين العالم المؤمن وغيره من العلماء، أنه وبعد أن يصل لأقصى ما يمكنه الوصول إليه عليه أن يعتقد أن ما وصل إليه خاضع ومحدد بمشيئة الله وأنه لم يصل إلى شىء ضد هذه المشيئة أو رغما عنها! لقد وقع صناع الفيلم فى هذا الخطأ بأنهم وضعوا فكرة سعى العالم إلى إيقاف العقم فى عصره فى مواجهة الآية الكريمة وكأن الآية الكريمة تقضى بأن العقم مثلا هو قضاء حتمىّ يجب وجوده فى كل عصر وكل بلد، بينما تتحدث الآية عن الحق الإلهى المطلق الذى لا يجب أن نحدده بزمن أو مكان!

 فمجرد وجود حالة عقم واحدة عبر تاريخ الكون ومنذ أن وطأ سيدنا آدم الأرض وحتى الآن يعنى إن إرادة الله الواردة فى الآية الكريمة قد تحققت بالفعل، وربما تكون تلك الحالة الواحدة هى المقصودة! فما بالنا بملايين الحالات عبر آلاف السنين! فلا تضاد بين سعى العلم للقضاء على العقم وبين الآية الكريمة!

أما صيغة المضارع فى اللغة فمما تعنيه الاستمرارية أو التكرار ما استمرت الحياة لكن دون أن نعلم نحن متى!

 فربما يرفع الله العقم من الأرض على يد عالمٍ ما ثم يعيده مستقبلا فى حالة أو حالات!

(3)

هل البشر حقا متساوون فى الرزق فى هذه الدنيا حسب نظرية الشيخ الشعراوى رحمه الله التى دشنها الفيلم؟ وعلى أية أرضية دينية بنى الشيخ رحمه الله نظريته؟!

وهل إذا ثبت خطأ هذه النظرية يكون الله – حاشا لله – غير عادلٍ؟!

هناك آيات قرآنية كثيرة تتحدث عن الدرجات التى ميز الله بعض البشر عن البعض الآخر دون أن يكون هناك سببٌ لذلك سوى الإرادة الإلهية المطلقة! وعلى أرض الواقع لا وجود مطلقا لنظرية الأربعة وعشرين قيراط هذه! فالطفل الذى يولد مريضا ويحيا حياته كلها معذبا بمرضه ويحدث أن يكون من أسرة فقيرة، أو فتاة لم تتعلم ثم مرضت ولم تتزوج ولم يكن لها مال، أو مجموعات بشرية فى دولة ما تتضور جوعا وينهشها المرض وتحيا فى جهل، آخر يولد ثريا ويتاح له العلم ويتزوج ويرزقه الله المال والبنين ويحيا حياة صحية سليمة، وغير ذلك من ملايين الأمثلة تنسف هذه النظرية تماما وتؤكد أن البشر غير متساوين فى الرزق فى هذه الدنيا! وأن افتراض تساويهم فى الرزق يتعارض مع ما منحه الله لنفسه من حق أن يرزق من يشاء بغير حساب ودون أن يلزم الله تعالى نفسه بشرحٍ أو تفسير، فهو حقه بصفته الخالق ومالك الكون وإرادته مطلقة!

تذكرنى هذه الرؤية بأخرى كانت ومازالت سائدة فى قطاعات معينة بين جموع المصريين، بأن كثيرا من الفقراء هم أفضل عند الله من الأثرياء لمجرد أنهم فقراء! نظرية اختلطت فيها السياسة بالدين بالعقد النفسية! الساسة فى أوقات الاضمحلال والخمول وانعدام الإرادة فى العمل والإنجاز وتدهور أحوال الشعوب يصبحون فى حاجة ماسة لرجال دين يدغدغون مشاعر كتل العامة الدينية! فى الفترات التى تتجمد فيها فرص الترقى المجتمعى وتتغول الفجوة بين قمة الهرم المجتمعى وقاعدته تزدهر وتتلألأ تلك النظرية ومن أزهى عصورها فى مصر كانت العقود التى سبقت مباشرة الغزو الفرنسى لمصر! جموع فقيرة متداعية حافية عارية لا يملك غالبيتها سوى رداء واحد ممزق ترتع فى القاذورات والتخلف والعادات التى تنسف أية أخلاق أو آداب دينية حقيقية، ووقعت أسيرة لتدخين الأفيون والحشيش، لكنها تعتقد أنها ستدخل الجنة أفواجا حسبما أقنعهم رجال الدين المتحالفين مع سلطة الخليفة ومنفذوها على الأرض من عصابة المماليك!

(4)

هل يعنى سقوط تلك النظرية أن هناك خللا – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - فى العدل الإلهى على الأرض؟! أولا إن طرح هذا السؤال هو فى الأساس نتيجة منطقية لمحاولة غرس هذه النظرية فى العقل الجمعى المصرى! فهو نتيجة لا مقدمة! حسبما أعتقد أن فكرة العدل الإلهى المطلق تتحقق بالجمع بين الدارين، الدنيا والدار الآخرة ولا تتحقق فى دارٍ واحدة! اكتمال العدل الإلهى يتحقق بالولوج إلى العالم الآخر فيما بعد الموت وحسب اعتقاد كل إنسان! فنفى الاعتقاد بوجود عالم آخر ينسف فكرة العدل على الأرض من أساسها! الدنيا بمفردها لا تحقق العدل!

القائد الذى يقود شعبه فى ثورة ضد احتلال فيتم إعدامه فى ذروة شبابه، ملايين البؤساء على الأرض، من تم ذبحهم فى مذابح جماعية ونجى قاتلوهم من المثول أمام أية محاكم على الأرض، الطغاة بمختلف دياناتهم وانتماءاتهم عبر العصور الذين تجبروا وذبحوا واستعبدوا الناس ثم تنعموا ووصلوا إلى أرذل العمر وماتوا على فُرشهم..وغير ذلك من أمثلة..لو انتهت القصة عن حد موتهم ظلاما كانوا أو مظلومين تصبح فكرة العدل فكرة وهمية خزعبلية!

فلا تحقق للعدل فى الرزق أو المظالم إلا بالإيمان بوجود نصف آخر للقصة مؤجل ولا يعرف أحدنا على وجه اليقين سيناريو القصة التفصيلى، لكن لكل مؤمن به سيناريو خاص! وأعتقد أن السيناريو التفصيلى لكل فرد لا يهم كثيرا، وإنما المهم هو تحقق الآمال الكبرى التى يتشارك فيها الجميع وعلى رأسها تحقق فكرة العدل!

فالأربعة وعشرين قيراطا مقسمة إلى نصفين، الأول من اثنى عشر قيراطا، وليس من الضرورى أن نتساوى فى امتلاكها كاملة، فقد يمتلك أحدنا قيراطا واحدا ويمتلك آخر نصيبه كاملا! والمحاسبة الكاملة ستكون بعد اكتمال النصف الآخر!

ولا يعلم أحدنا ما قسمه الله فى النصف الأول من القصة، وعدم المعرفة هذه هى التى تدفع الجميع دفعا مشروعا لأن يحصل لنفسه على ما يستطيع! من يدرك كُنه المسألة يرضى بما استطاع الحصول عليه ويسعد به ويفرح رغم علمه بأنه لم ينل مثل الآخرين، لكن إيمانه بوجود نصف آخر للقصة يمنحه أمانا نفسيا يسعد به، ومن لا يدرك الحقيقة يبقى طوال عمره ناقما رافضا ومهما ردد لفظيا من كلمات إيمانية عميقة فهى كلمات لم تتخطَ الشفاة!

نظرية الشيخ الشعرواى رحمه الله التى كرسها الفيلم نظرية خاطئة تتعارض مع الحق الإلهى المطلق فى التمييز بين البشر على سطح الأرض! فلا أحد يلزم الله بشىء فى ملكه، الله وحده ألزم نفسه بالعدل، ولا يكتمل العدل إلا باكتمال الإيمان بأننا فى الدنيا نعيش نصف القصة فقط!

(5)

فيلم جرى الوحوش فيلم قوى جدا دافع عما هو سائد بين جموع المصريين، افترض وجود مواجهة بين طموح العلم وبين الدين، ثم انتصر لما اعتقد أنه انتصارٌ للعقيدة الدينية! وكرس أيضا لحالة التناقض المصرية المتفردة! فالمحامى الذى ورد على لسانه على سبيل الدعابة أن الذين يترافع عنهم (كلهم حرامية)، هو نفسه الذى تحصن فى دفوعه ضد العالِم بآيات قرآنية كريمة! ولو قلبنا صفحات التاريخ فى القرون السابقة وفى مشاهدٍ وقفت فيها السلطة الحاكمة المتوشحة بعباءة الخليفة وسيف الدين فى مواجهة العلماء والفلاسفة والأطباء والفلكيين، يمكننا أن نضع هذا الفيلم فى الجانب المتسق لما قدمه، وهو جانب السلطة الدينية التى كانت تحشد الغوغاء فى مشاهد إعدام العلماء على خلفية هتافات دينية زاعقة! انتصر الفيلم لحشود العامة وتدينهم الشعبى دون أن يقوم بما كان مفترضا القيام به من الوقوف فى صف التصويب والتنوير!

على الجانب الآخر انتصر فيلم (قاهر الزمن) - الذى تم تقديمه على أنه من تصورات الخيال العلمى – للعلم! وفى مشهد النهاية المأساوى حين قام أحد مساعدى الطبيب بهدم المعمل وهدم إنجاز العالم مما أصاب الطبيب العالٍم بالجنون فاندفع فى محاولة لإنقاذ معمله فلم يستطع إنقاذه ومات، فى هذا المشهد تم وصف الحالة بشكل صحيح ينتصر للعلم! فكرة الفيلم خيالية..طبيب – جميل راتب – يحلم بتجميد الجسد البشرى لسنوات طويلة لحين اكتشاف علاج لبعض الحالات.. قام بتنفيذ تجربته على كثير من الحالات ولم تنجح.. فى تلك الحالات كان مساعده – الذى يمثل الرؤية الشعبية – مستقر النفس هادئ البال ليقينه بأن فشل العالم يتسق مع الدين، حتى تحدث المفاجأة وينجح الطبيب فى الحالة الأخيرة – خالد زكى- فيصاب المساعد بهستيريا ويعتقد أن هذا من قبيل التدخل فى الإرادة الإلهية فى أنها بمفردها تُميت وتُحيى من تشاء! رغم أن الطبيب فى مشهدٍ حاول الدفاع عن نفسه بما يؤكد إيمانه أن الله وحده يمتلك سر الروح، وأنه فقط يتعامل مع الجسد البشرى بشكل علمى طبى!

قطعا لم يكن من حق الطبيب أن يجرى عملياته على بشر رغما عنهم، وهو ما كان يفعله بسرقة بعض المرضى من المستشفى المجاور! لكن سلوكه هذا كان يتماشى مع ما كان سائدا وقتها، فلم تكن فكرة تطوع البعض بأجسادهم لإجراء العمليات الطبية الجديدة موجودة!

(6)

الغريب أن هذا الفيلم من النادر أن تشاهده على إحدى قنوات الأفلام المصرية، بينما تشاهد فيلم جرى الوحوش بصفة شبه يومية بين تلك القنوات المختلفة! فهل هذا يعنى أن القائمين على اختيار خريطة ما يعرض على تلك القنوات ما يزالون ينتمون لمعسكر التدين الشعبى ولا يريدون أن يقتربوا اقترابا حقيقيا من العقل المصرى الجمعى، أو هز ما يعتقدون أنه من مسلمات هذا العقل؟!

إننى أعتقد أننا الآن فى حاجة ماسة لإخضاع كل تلك المسلمات المزعومة للمراجعة، فعلى كل مسلمة أن تدافع عن نفسها فكريا وعقليا، وما لا تستطيع البقاء منها علينا أن نضعها فى موضعها الصحيح وهو أرشيف التاريخ الفكرى والعقائدى للشعوب، وأن نستبدلها بما هو أقرب لتطلعاتنا فى الترقى الحضارى!

أتمنى أن نشاهد مستقبلا أعمالا سينمائية أخرى تطرق أبواب العقل المصرى وتحاول انتزاعه مما اكتظ به من خزعبلات تدثرت زيفا برداء الدين!