رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شيرين.. مش كل القصص ملهمة

مشكلة الذين يتعاملون مع حياة شيرين عبدالوهاب وحكاياتها أنهم يتخيلونها امرأة من زجاج.. ليس من حقها أن تخدش.. وهكذا نتعامل طيلة الوقت مع مَن نحب من المبدعين والمفكرين والساسة أيضًا.. فى أى كتاب قرأنا هذه القصة.. هم بشر مثلنا ولن يكونوا أكثر من ذلك سوى فى خيالنا.. نحن نطلب منهم أن يصبحوا قصصًا ملهمة وهم أقل من ذلك بكثير وأبعد عن ذلك بكثير.. ثم ماذا يحدث لو أننا صدقنا أن البشر العاديين يصلح أن يكونوا فى بعض الأحيان قصصًا ملهمة.. على فكرة ينفع.. ولو صدقنا ذلك سنستريح كثيرًا، لكن ربما ساعتها لن يجد رواد السوشيال ميديا ما يطبخونه ويبيعونه لنا، وساعتها سنتعب يومًا أو بعض يوم فقد تعودنا على أكل الحكايات المجانية منها على الأخص ومنها حكاية شيرين عبدالوهاب.

 

شيرين الفتاة الصغيرة التى كانت تلعب الحجلة فى منتصف شارع فقير فى حى القلعة إذ وجدت حلقًا ذهبيًا التقطته من الأرض وراحت تجرى إلى أمها.. سيدة الحارة التى تجيد طبخ المحشى وطواجن الحلويات رأت فى عينىّ طفلتها صورة الكنز الذى أرسلته السماء.. لم تكن تعرف حينها وهى تفكر فى ظروف معيشتها الصعبة أن هذه الطفلة التى تعودت أن تنظر إلى الأرض كلما خرجت إلى الشارع ربما تجد الذهب مجددًا أنها هى نفسها الذهب الذى منحنا الله فى حنجرة هى الأنبل والأنقى فى السنوات العشرين الأخيرة من عمر الغناء المصرى.. ولم تعرف شيرين نفسها تلك التى لم تعد طفلة كيف تتعلم التخلص من تلك العادة السخيفة.. النظر إلى الأرض تحت قدميها.. لم تدرك أنها تحتاج إلى رفع رأسها دومًا ذلك أن الذهب الذى تحتاجه يلمع فى السماء كلما غنت ليس إلا.

 

ولهذا ظلت شيرين التى أعرفها منذ كانت طفلة تتعثر فى الطريق.. طريقها.. الأضواء التى أحاطت بابنة القلعة لم تغيرها ولا الأموال لكنها أيضًا لم تدرك أن ما تبحث عنه طوال الرحلة موجود فقط فى حنجرة هى الذهب والفضة والياقوت والزمرد معًا.. ولم يتح لها من يدرك ذلك أيضًا.. بل حاوطها الكثير من الشماشرجية والسماسرة والمتعهدين وما أكثرهم.. لم يتح لها زمن أم كلثوم ورجاحة أفكار مبدعى عصرها.. ولا مشروع يوليو الذى احتضن شادية ونجاة وغيرهما من نجوم الستينيات.. ولا حتى البيت الذى حمى أضلع أنغام من الصقيع والبرد والرذاذ.. الجميع شافوا أنها الفرخة التى تبيض ذهبًا.. وتعثرت فى حياتها الخاصة مثلما توقف مشروعها الفنى وتعثر أكثر من مرة.. لا فضل لأحد على شيرين إلا قليلًا.. أخذ الجميع منها ما أراد ولم يمنحها أحدهم ذلك الذى كانت تبحث عنه ولم يكن الذهب أبدًا وإن بدا للبعض أنه كذلك.. لكنه الأمان.. وبيت التفكير الذى منح فيروز مشروعها ووجودها حتى الآن.. وزاد الطين بلة أنها وضعت حياتها الشخصية أمام الجميع فى سوق رخيصة لا تبحث سوى عن النميمة.

قصة زواج أم كلثوم وعلاقتها بالقصر الملكى ومرضها وزواجها الذى لا يعرف البعض حتى الآن إن كان قد استمر أسبوعًا أو شهرًا أو لم يحدث من الأصل كان مادة متاحة للصحف السيارة فى مصر ولبنان لسنوات طويلة.. ولو كانت السوشيال ميديا موجودة فى ذلك العصر لصارت مثل شيرين تمامًا مادة ثرية لذلك العبث.

لا أكتب متعاطفًا مع شيرين بعد وقعتها الأخيرة على المسرح فى حفل دبى، تلك الوقعة التى يصورها البعض بأنها سقوط موازٍ فى الفن والحياة، وراحوا ينظرون فيما يشبه الحملة الممنهجة لذبحها.. بلا سبب.. لا أكتب من باب التعاطف، فشيرين القوية العندية التى أعرفها لا تحتاج إلى ذلك، هى أقوى من ذلك بكثير.. لكننى أكتب دفاعًا عن صوت مصرى مهم.. وبعض الذين يخوضون هذه الحرب لا يهمهم سوى مصر.. وقواها الناعمة التى كانت، وستظل، عينًا تؤرق أدمغة هؤلاء.. شيرين كانت، وستظل، واحدة من أهم الأصوات العربية.. تستطيع وفى خلال مدة قصيرة جدًا أن تستعيد حيويتها.. وربما تجد فى هذه اللحظة من يعيدها إلى طريقها.. إلى حنجرتها.. شيرين فى حاجة إلى أن تقف عند حافة مشروع حقيقى لاستثمار صوتها فيما يضيف إلى ذاكرة بلدنا الموسيقية وهى تقدر وتستطيع إن وجدت معها وإلى جوارها مَن يشاركها الوعى والحلم، فلا شىء يحدث صدفة.. ومهما كان النجم موهوبًا ومحبوبًا فإنه فى النهاية مجرد فرد.. والمشروعات الكبرى لا تحتاج إلى الأفراد.. وشيرين كانت، ولا تزال، مشروعًا موسيقيًا كبيرًا فى سياق المشروع الأكبر لمصر التى تغنى.. وتحلم.. وتبنى.. وتمضى إلى الأمام دومًا مرفوعة الرأس والهامة.