رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قدر الكبار

خلال الأيام الماضية، ومع صدور قرارات من الدولة المصرية بالسماح للأشقاء السودانيين الفارين من جحيم الحرب في السودان بالدخول إلى مصر دون تأشيرة مسبقة، ظهرت حالة متباينة في ردود الفعل حول القرار، الكثير بطبيعة الحال رحب واستقبل القرار على أنه أمر طبيعي، فقدر مصر وقدرها هو الحاكم لمثل تلك القرارات، في المقابل موجة ردود الأفعال الرافضة أو المتحفظة على القرار ملأت مواقع التواصل الاجتماعي، ربما كانت الدوافع مختلفة، فالبعض يرى أن الأوضاع في الداخل المصري لا تتحمل، وآخرون رفضهم نابع من رؤيتهم بوجود عداء ضد مصر وشعبها من  بعض أبناء الشعب السوداني، وهو ما ظهر جليا في عشرات التعليقات الحاقدة على مصر والمهاجمة لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

اختلفت مبررات الرافضين؛ لكن النتيجة واحدة، وهي وجود قطاع في الرأي العام المصري لديه تحفظات على استقبال الأشقاء من السودان، قد يبدو الأمر طبيعيا للوهلة الأولى نتيجة عوامل كثيرة، لعل من أبرزها غياب مفهوم الأمن القومي بمعناه الواسع لدى قطاع كبير من الأجيال الحالية، إلا أن من غير الطبيعي في ظل ما يعانيه الشعب السوداني أن تجد من أبنائه من يهاجم مصر وشعبها عبر منصات التواصل الاجتماعي، بل ويرى البقاء تحت نيران الحرب الاهلية أفضل من النزوح إلى مصر، ووصل الأمر بهؤلاء أن اتهموا مصر بأنها أحد أسباب ما يحدث في السودان.

الأزمة هنا ليست في تلك الاتهامات بحد ذاتها، ولكن فيمن يقف وراءها والدافع الحقيقي، ومدى ارتباط تلك الاتهامات بالحملات الممنهجة التي يتم العمل عليها منذ سنوات وتستهدف نشر أفكار مزيفة ضد مصر والتعامل مع تلك الأكاذيب على أنها حقيقة.

على مدار السنوات الماضية ظهر على السطح مصطلح "الأفروسنتريك"، وهو ما يعني حركة المركزية الإفريقية، لم ينظر إليه الكثيرون في بادئ الأمر باهتمام، على غرار ما حدث في بداية ظهور الحركات الصهيونية في المنطقة العربية، حتى وصلنا لإنتاج منصات عالمية عملًا فنيًا يظهر الملكة كليوباترا، آخر ملوك العصر البطلمي، بأنها من أصحاب البشرة السوداء، وأن هناك أجيالا بالفعل في السودان وإفريقيا مقتنعة بأن الحضارة الفرعونية المصرية بنيت بأيدٍ إفريقية وأن المصريين الحاليين ليس لهم علاقة بالمصري القديم، واجتذبت تلك الفكرة المشبوهة بعض نجوم الفن في الولايات المتحدة وأوروبا من أصحاب الأصول الإفريقية.

تلك الحملة التي كانت بدايتها في منتصف القرن الماضي، ليست الوحيدة التي تستهدف مصر بماضيها وحاضرها، وإنما هي جزء من مخطط واضح الملامح، يسير بخُطى ثابتة، يهدف لانتزاع التاريخ المصرى من أصحابه، مثلما يحاول البعض إظهار دول لم تكن موجودة قبل مائة عام على أنها يمكن أن تأخذ من مكانة مصر في زعامة المنطقة العربية وتأثيرها الإقليمي لمجرد امتلاكها أموالا طائلة.

لقد كان جزء كبير من نجاح دولة يوليو، سواء في مرحلة التجربة والخطأ وصولاً إلى مرحلة النظرية والتطبيق، هو الوعي بمفهوم الأمن القومي المصري بشكله الواسع، والذي لا يقف عند بوابات الحدود المصرية وفقط، فقد رسخت دولة يوليو مفاهيم تتوارثها الأجيال رغم محاولات طمسها؛ إن بوابة الحدود الشرقية لمصر لا تقف عند حدودها مع الأرض المحتلة، وإن قضية فلسطين جزء من الأمن القومي المصري، وإن عروبة مصر وريادة مصر وقيادتها لأمتها العربية هي جزء من مفهوم الأمن القومي المصري، وإن محيط مصر الإفريقي وتأثير مصر الثقافي والسياسي، من خلال بعثات الأزهر والكنيسة المصرية، والبعثات التعليمية لإفريقيا، هو جزء من مفهوم الأمن القومي المصري، فالامتداد الطبيعي لمصر جنوبا هو السودان ثم دول حوض النيل والقارة الإفريقية.

تلك الرؤية المصرية وضعت في مواجهتها مخططات التقسيم، ولكي تنجح مخططات التقسيم كان لا بد من خلق قوى إقليمية تسحب البساط من تحت أقدام مصر بطرق مختلفة وأنفقت من أجل ذلك المليارات، وكانت نتيجة تلك المحاولات المستمرة  على مدار سنوات أن سقط العراق ومن بعده سوريا وليبيا، وحاليا يتم تنفيذ المخطط في السودان، في ذات الوقت يتم إغراق مصر في مشكلاتها الداخلية حتى لا تستطيع مواجهة ما يحدث على حدودها الغربية أو الجنوبية، لكن قدر الشقيق الأكبر أن يقف في تلك اللحظات وأن يترفع عن أفعال الصغار، وأن يقف بكل قوة ويفتح أبوابه لاحتضان أبناء السودان كما فعل من قبل مع أبناء الإقليم الشمالي"سوريا"، فلمن ينسى التاريخ كانت مصر وسوريا دولة واحدة يوما ما، ووقفت مصر في مواجهة مخططات تقسيم ليبيا، والآن على مصر وشعبها الوقوف في مواجهة المؤامرات التي تحاك بالسودان الشقيق.

ربما لا يؤمن البعض بنظرية المؤامرة، وأن حركات مثل «الأفروسنتريك»، وخلق جيل عربي لا يعادي إسرائيل، منبعها واحد وهدفها واحد هو طمس الهوية العربية وفي القلب منها الهوية المصرية، وتزييف التاريخ هدفه ومنبعه واحد، مرتبط بالحاضر والمستقبل، لكن ما يحدث حولنا يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن نظريات المؤامرة إذا لم ننتبه لها تتحول مع مرور الوقت إلى أمر واقع مفروض علينا التعامل معها، وأن قدر مصر مكانها ومكانتها تفرض عليها التعامل مع ملف السودان باعتباره من أهم ملفات الأمن القومي، وأن مصر مرتبطة بمحيطها العربي والإفريقي.