رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن أبى عبيدة الطيب.. وكل طيب

وأنا لسه طالب ف ثانوى تعرفت على الشاعر الكبير الصديق ياسر الزيات والكبيرين عبدالناصر هلال وكمال عبدالحميد.. كانوا طلبة فى الجامعة يسكنون فى شقق شرق النيل.. وكنت مع أبناء قريتى الوافدين للدراسة نسكن فى غرف ضيقة وأرخص غرب النيل.. فى مدينة سوهاج.. ومعهم رأيته لأول مرة شاب سودانى شديد الثقافة معتز بنفسه بطريقة مبهرة وتصاخبنا.. وكان أول تكاليف هذه الصحوبية أن نمشى سويًا من شقتهم شرق النيل إلى غرفنا غرب النيل وبالعكس، فهو يحب المشى والحكى ولا يطيق البقاء فى مكان واحد لساعة واحدة. 

لم تمر أسابيع قليلة واصطحبته إلى قريتى فى نهاية أسبوع.. خلع البنطلون والقميص وارتدى الجلباب الصعيدى وذهب مع كل من يدعوه إلى الشاى واقتسام المضغ.. ولم تمر الليلة إلا وكان أبوعبيدة كأنه أحد أبنائها المولودين فيها من سنوات.. يعرف الطريق إلى فرن الخبيز كما يعرف الطريق إلى بيتهم فى مصنع السكر فى جنوب شرق السودان.. أربع سنوات مضت وأبوعبيدة واحد من أسرتى.. يسألنى مساء كل أربعاء هل تعود للعسيرات فى الغد.. وكثيرًا ما كنت أفضل البقاء ولا أذهب لأكتشف بعدها بيومين أنه ذهب بمفرده إلى قريتى وأكل وشرب وسهر وحكى وبكى وضحك وذهب إلى المقابر مع أمى وخالتى وعماتى وقرأ الفاتحة للميتين وعاد إلى المدينة محملًا بزيارة فيها ما طاب ولذ وكثير من المضغة المخلوطة بالنطرون ولا يجدها إلا هناك. 

أربع سنوات لم نفكر لحظة واحدة أن الرجل غريب وهو لم يفكر أيضًا.. غريب ؟.. كيف ؟ ما غريب إلا الشيطان.. جدى أو بالأحرى أحد أعمام والدى كان يدمن رؤياه.. يحب مسامرته وإن ذهبت إلى قريتى بدونه يغضب.. فقد استلب الفتى الأسمر الذى يدرس الإنجليزية ويتحدثها بلباقة عقل الرجل السبعينى الذى يحفظ الهلالية والأحاديث والقرآن وسيرة عنترة.. وأبوعبيدة يزيده من الشعر بيتًا بإتقانه فنون الشعر والعروض وما تيسر من التوراة والإنجيل وكتب المفسرين الكبار وسير الأولين.. كانت سهرتهما نوعًا من الدراما المدهشة.. وفى كل مرة يسأل عنه ينعته هوه صاحبك الطيب فين.. لم يقل مرة صاحبك السودانى ولم يفعلها أحدهم أبدًا. 

أهلى وأهل قريتى، وربما صعيد مصر كله يحب الغرباء، نعم لكنه لا يأمن إلا الطيبين منهم.. يقرأ ضمايرهم جيدًا.. ويفرزهم بسرعة لا أفهمها أحيانًا.. وهذا الطيب.. هو عنوان ما نعرفه عن أهل السودان.. أهلنا.. لذلك لا أستغرب أبدًا تلك المودة التى استقبل المصريون بها القادمين هربًا من الحرب.. وأى كلام رخيص عدا ذلك فهو أمر عارض ولا أحسبه مصريًا على الإطلاق.

ذهب أبوعبيدة الطيب إلى بلده عقب حصوله على الليسانس من كلية الآداب.. وظلت أمى رحمها الله تذكره لسنوات وتسأل عنه كلما أوقدت نار الفرن لتخبز الدبداب الذى كان يحبه مطمورًا فى المرقة.. وتبتسم لأنها تذكرت أسنانه البيضاء اللامعة التى كانت تداعبه بها عندما يمضى فى عز الضلمة، وتخبره بأنه لولا تلك الأسنان لوجدناه قتيلًا.. فى الصباح.. فيضحك أكثر ويخبرها بأن هناك الكثير من تلك الأسنان فى السودان وأنه فى الإجازة سيأتى لها ببعض منها وعقد من العقيق.. ذهب أبوعبيدة إلى اليمن ليعمل هناك وتوقفت خطاباته التى كانت ترد لى ولبعض الأصدقاء.. واختفت قصائده.. من على صفحات بعض الصحف التى كان ينشر بها.. لكن بعض أهل قريتى لا يزالون يحتفظون بخطه العربى الجميل فى كراريس قديمة بها بعض من تلك القصائد.. اختفى أبوعبيدة وقيل إنه مات.. وقيل إنه سجن فترة سيطرة الإسلاميين الإرهابيين على الحكم هناك.. وبعضهم يقول إنه سافر إلى بعيد بحثًا عن بلاد طيبة.. ورحل جدى.. وأمى.. وأحباء كثيرون من أبناء ليالينا القديمة الطيبة..الآن جميعهم يحضرون.. يتقدمون المشهد.. يلعنون تلك الحروب ويطلبون ابتسامة.. فقط ابتسامة واحدة من ذلك الجنوبى الطيب.