رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كمال عبدالحميد.. وفتنة «الخلود بقُبلةٍ على الرقبة»

يعرف صديقى كمال عبدالحميد جيدًا ماذا يريد الشاعر بداخله، وما يلح عليه لكتابته، وأسطرته، وحفره فى تاريخه الشخصى، وتاريخ الشعر العربى، لكنه لا يتوقف عن مراوغة ذلك المنشد الحالم بالخلود عبر «قُبلة» صغيرةٍ، غير خاطفةٍ، وغير عابرة، ولا تقبل النسيان. ذلك المنشد الذى يسكنه ويتحين اللحظات للسيطرة على روحه وجسده، ولا يترك له حرية الكتابة أو الخيال، ولو فى أشد لحظاته وعيًا، وقدرة على التمييز، والسيطرة على ما يروق له من أفكار وتصورات..

وعلى طول سبعة دواوين شعرية قرأت ملامح تلك المطاردة التى لا تهدأ لها وتيرة، ولا تستكين إلا لتشتعل من جديد.. قرأت ذلك فى ديوانيه «تمام الجحيم»، و«لا يدخل الليل إلا وحيدًا»، الصادرين عامى ٢٠٠٥ و٢٠٠٦ عن «المكتب المصرى للمطبوعات»، وتلمسته فى ديوان «الوسيلة المتاحة للبهجة» الصادر عن دار الانتشار اللبنانية فى ٢٠٠٨، وأدركت سيطرته على روح الشاعر الكبير فى «عاطفة قاسية تلوح بالعصا»، عن دار «الأدهم» فى ٢٠١٤، ثم فى «نظرة أخيرة على أصابعى»، الصادر عن دار «العين» فى ٢٠١٥، فرأيته وهو يجلس وحيدًا فى مقهى غريب يخط ما يمليه عليه ذلك المنشد الساكن فى روحه، على صفحات المناديل الورقية، وما تيسر من أغلفة علب السجائر الفارغة، لا يفارقه القلم رغم أجهزة الهواتف الذكية التى توفر كل أدوات الكتابة والقراءة على شاشاتها، ولا يعجزه غياب تلك «الوسيلة المتاحة للبهجة»، فالشعر والكتابة هما وسيلته، وغايته هى الوصول إلى تلك «البهجة» التى يحددها فى اللحظة التى ينال بها الخلود عبر «قُبلة على الرقبة».

ربما غلبنى ما عرفته عن كمال وأنا أقرأ ديوانه الأحدث «ندم المشيئة.. ما دبرته لنفسى من نهايات» الصادر عن دار «ميتافورا» للنشر والتوزيع فى نهايات العام الماضى، فكان أن رأيت بعينى ما عشته معه، وفى سطور دواوينه السابقة، من سطوةٍ لحضور المرأة فى شعره، وفى تفاصيل يومه، وثنايا روحه، فهى «إيزيس» مانحة الحياة، وباعثة النشوة، والحاملة لمفاتيح البقاء، والمعنى الكامل لفكرة الخلود التى عاشت البشرية تبحث عنها فى الطريق الخطأ، فسارت فى طريق القتل والتدمير، والبحث عما يطيل أعمارها من عقاقير تقاوم المرض، وتؤجل الموت، فيما راح هو يبحث عنه بطريقته الخاصة، وحلمه الشخصى، ليشكل أسطورته التى تستعصى على النسيان.

كمال هنا، فيما دبره لنفسه من نهايات يقول: «لا أريد أن أكون خالدًا، لا أريد أن أكون خِزانة عزرائيل.. فقط أريد من أصدقائى أن يساعدونى قليلًا.. ألا يتوهموا مثلى الخلود بقبلة على الرقبة».

هذا هو الخلود الذى يريد كمال عبدالحميد ألا يشاركه فيه أحد، هو تاريخه الشخصى، ومنفذه إلى حديقة البقاء، وهو العنوان الذى اختاره لترجمة مختارات شعره إلى اللغة الإنجليزية، والتى صدرت عام ٢٠١٦ عن دار «ترافورد» الأمريكية بعنوان هو ترجمة حرفية لعبارة «الخلود بقبلة على الرقبة»، أما عن كواليس رحلته إلى الخلود، فهى ما تجده بالتفصيل فى المقطع السادس من قصيدة «ما رأيته ناقصًا» المنشورة بذات الديوان، والتى يقول فيها ما نصه: «أحب عادة أن أترك للنساء ذكريات غريبة، أتخيلهن فى الثمانين من العمر، جالسات فى شرفاتٍ، أو حدائق صغيرة، وعلى وجههن أثرٌ عميق لما أفسده الأزواج من الينابيع.. أتخيلهن بيضاوات ببشرات مغطاة بالنمش، أو سمراوات بتجاعيد داكنة تحت العينين، ويجب أن تكون لهن جميعًا رعشة خفيفة فى اليدين، وهن شاردات فى ماضيهن السرى أمام أكواب الشاى، مع قليلٍ من الحسرة على ما لم يفعلنه بجنون مقابل جنونى.

قليلٌ من الحسرةِ فى قلوب حبيباتى العجائز سيقنعنى أننى لم آت إليهن عبثًا، وأننى أنقذتُ من الموت الذى أتحدث عنه كثيرًا من الحياة».

سطوة الحضور الأنثوى فى شعر كمال عبدالحميد، ومركزيتها كوسيلة متاحة للوصول إلى بهجة الخلود، لا تستعصى على الاكتشاف، والتحليل، ولا تحتاج إلى مجهود بحثى لقراءة تفاصيلها، وتمثيلاتها أو شواهدها.. على أن الحديث عن المرأة باعتبارها «الوسيلة المتاحة» لا يحمل بأى حال من الأحوال ما قد يظنه البعض من تقليل من شأنها، بل هو الحضور الكثيف، الجسدى الملموس الذى لا يقبل التجاهل، ولا يحتاج إلى معامل لرؤيته، والذوبان فيه، والخلود به، فيما تتوارى عقاقير مقاومة الزمن التى عاش الإنسان يحاول اكتشافها، وتخطئ أسلحة البشرية فى مواجهة الموت طريقها، وتستعصى على الاكتشاف، ولو استمرت البشرية لملايين أخرى من السنين، بينما يسير كمال هادئًا مطمئنًا فى سعيه للخلود عبر الحياة فى قلوب نسائه القادرات، وحدهن، على منحه مفاتيح البقاء. 

أخيرًا.. أحب أن أوضح أن ما كتبته هنا ليس نقدًا لشعر كمال، ولا تحليلًا، أو درسًا بحثيًا، لا شىء سوى احتفالية بمحبة الحياة، وقدرة النفس على الكشف عن جموحها، والطفو بتفاصيلها رغم ضعف الجسد، فالحقيقة أننى لا أميل إلى نقد الشعر، ولا أرى له من دور، وأغلب ظنى أن الشعر يحتاج إلى الاحتفال أكثر من النقد، يحتاج إلى القراءة والاكتشاف، للاستمتاع بما يسوقه من أفكار وتصورات، وربما كان ذلك هو السبب المباشر فى أننى لم أعد ألتفت إلى غالبية ما يكتبه نقاد الشعر، ضمن أسباب عدة أخرى، فى مقدمتها ما أغرقوا أنفسهم فيه من محاولات لاكتشاف ما وراء النص الشعرى، وما قد يكون فى ذهن الشاعر من خيالات لا يراها غيرهم بشأن ما اصطلحوا على تسميته بحقل الدلالة، وتثوير اللغة، أو تفجيرها، وما لم يفصح عنه الشاعر من مكنونات، ما جعلهم «جميعًا» لا يعرفون شيئًا عن جديد الشعر العربى، وجماليات تياراته الأحدث، فعاشوا ينقبون فى قصائد حجازى، ودرويش، ودنقل والسياب، وغيرهم من شعراء الستينيات والسبعينيات، هؤلاء الذين تجاوزت الكتابات الجديدة ما سطروه، فرحلت إلى آفاق أخرى أكثر رحابة، وقربًا من الإنسان فى آماله وطموحاته وعذاباته وإيقاعاته الشخصية مكتملة الخصوصية، وأكثر قدرة على قراءة ما تخلفه الدنيا على الوجوه وفى الأرواح.. وهو تمامًا ما يفعله كمال عبدالحميد، أو ما يفعله به الشعر، هو ومن لف لفه من  الشعراء الجدد فى لغتنا العربية.

محبة كبيرة لوسيلة كمال عبدالحميد المتاحة للبهجة، وما دبره لنفسه من نهايات.