رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بالونات التجسس.. تاريخ يبدأ من الثورة الفرنسية

حظي البالون الصيني، الذي طار فوق الولايات المتحدة، إلى أن أسقطته مقاتلة أمريكية قبالة ساحل ساوث كارولينا، بقدر كبير من اهتمام وسائل الإعلام، باعتباره اختراقًا للأمن القومي الأمريكي، من دولة بينها وبين واشنطن صراع مُحتدم حول جزيرة تايوان.. لكن تبقى حقيقة أن بالونات التجسس، المستخدمة كوسيلة لجمع المعلومات الاستخباراتية، ليست جديدة، وبالتأكيد ليست نادرة.. إذ كانت بالونات المراقبة جزءًا من الاستراتيجية العسكرية على طول الطريق إلى القرن الثامن عشر الميلادي، لكل من التجسس المحلي والدولي، وقد خلق هذا النوع من البالونات مكانة له، كجزء دائم من الضروريات العسكرية عندما يتعلق الأمر بالمراقبة، لأن قدرته على البقاء في الأجواء كبيرة، على الرغم من أنه ليس سريعًا، أو قادرًا على الاستطلاع المتخفي، كما أن تكلفته أقل من الأقمار الصناعية، ويمكنه السفر فوق مناطق الحركة الجوية التجارية، ولا يتطلب إعادة التزود بالوقود.

بالعودة إلى أيام حروب الثورية الفرنسية وحتى اليوم، تم استخدام البالونات من قبل الدول، لإسقاطها في أماكن غير متاحة بغيرها، حتى يتمكن المسئولون في هذه الدول من الحصول على المعلومات التي لا يُفترض أن تكون لديهم بشكل رسمي.. ويعود أول استخدام مسجل للبالونات لأغراض عسكرية إلى عام 1794، خلال حروب الثورية الفرنسية.. إذ استخدمت اللجنة الفرنسية للسلامة العامة البالونات كجزء من المراقبة العسكرية، وقد جرت أول تجربة مراقبة جوية خلال معركة فلوروس ضد البريطانيين والألمان والهولنديين، والتي انتصرت فيها فرنسا.. واستمر فيلق البالونات في أن يكون جزءًا لا يتجزأ من الجيش الفرنسي، حتى تم حله بعد أربع سنوات.. حتى جاءت الولايات المتحدة- في نهاية المطاف- لتضع البالونات كأداة تجسس مفيدة، واستخدمتها خلال الحرب الأهلية الأمريكية، بعد ستين عامًا تقريبًا.

في الحرب الأهلية الأمريكية، ولد فيلق البالون.. ويمكن القول إن البالونات العسكرية التي تم نشرها خلال هذه الحرب الأهلية وصلت إلى ارتفاع ألف قدم.. ويرجع ظهورهم الأول في الولايات المتحدة إلى ثاديوس لوي، وهو عالم ومخترع، كان معروفًا، بحلول عام 1850، ببناء البالونات، وقد قرر الرئيس الأمريكي، أبراهام لنكولن، استخدامها عام 1861، واستخدمها الجيش الكونفيدرالي أيضًا، وإن كان ذلك أقل نجاحًا من جيش الاتحاد.. وعلى الرغم من أن الجنود الكونفيدراليين حاولوا إسقاط بالوناته، إلا أنهم لم ينجحوا.. في الواقع، لم يتم تدمير أي من بالونات لوي العسكرية السبعة أثناء القتال، وفقا لجريدة «المجرة»، في ذلك الوقت.. واخترع لوي أيضًا مولد غاز الهيدروجين المحمول، حتى لا تعتمد بالوناته على الغاز التقليدي في المدن.. وقد تواصلت مناطيد، أو بالونات الحرب الأهلية، مع المسئولين العسكريين عبر التليغراف أو أعلام الإشارة، لكنها لم تنجح دائمًا، وكثيرًا ما أعاقت مختلف الخدمات اللوجستية للاتصالات.. وتم حل شركة Lowe U.S. Balloon Corp عام 1863، بسبب القضايا المقامة ضدها، بعد تغيير القيادة العسكرية، لكن استخدام مناطيد المراقبة العسكرية استمر في كل حرب تقريبًا، حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.

خلال الحرب العالمية الأولى، استخدمت البالونات للتجسس على قوات العدو.. وكانت بالونات تجسس على العدو فعَّالة، لدرجة أنها أصبحت هدفًا رئيسيًا للقوات الجوية في الدول المتحاربة.. وكجزء من المجهود الحربي، ركز العلماء والمهندسون بعض طاقتهم على تطوير تكنولوجيا البالونات العسكرية، حتى تكون أكبر وأكثر قوة.. وأصبحت البالونات، التي تم تطويرها قبل الحرب العالمية الأولى، قابلة للطيران على ارتفاعات متوسطة، تتراوح بين 1200 و1800 متر، وكانت تعمل بمحركات وموجهة بمراوح، وفقا لتقارير من المتحف الوطني والنصب التذكاري للحرب العالمية الأولى.. وعلى عكس البالونات الأخرى التي تحركها الرياح، كانت البالونات القابلة للنفخ مزودة بمحركات، وهائلة بطول 600- 700 قدم تقريبًا.. وكانت إحدى مزايا هذا النوع من البالونات أنه بسبب حجمها الكبير فقد تحركت ببطء، مما يعني أنه يمكن أن يبقى في مكان واحد «برًا أو بحرًا» لفترة طويلة.. كما يمكن أن تحمل طاقمًا من الأشخاص ومدفعا رشاشا وأطنانا من القنابل.

شهدت الحرب العالمية الثانية صعود بالونات «وابل».. كبيرة ولكنها عادة أصغر من البالونات التي سبقتها، مربوطة بالأرض بكابل يستخدم كإجراء مضاد للطائرات.. وكانت تعتبر بشكل عام دفاعية بطبيعتها وتستخدم لمواجهة وابل طائرات العدو المُغيرة.. وقد أجبرت هذه البالونات طائرات العدو على التحليق على مستويات أعلى، مما جعل هجمات القصف منخفضة المستوى وأقل فاعلية.. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن بالونات الوابل يمكن أن يصل ارتفاعها إلى 14,764 قدم، وأحيانًا تحتوي على عبوات متفجرة متصلة بالكابلات، والتي يمكن أن تدمر طائرات العدو.. ولكن مع قرب نهاية الحرب، أصبحت هذه البالونات أهدافًا للقاذفات الألمانية على ارتفاعات عالية، وبالتالي صارت أقل فاعلية.

وبقيت البالونات في الخدمة بعد الحرب العالمية الثانية، إذ كان لدى الولايات المتحدة سلسلة من برامج البالونات، في وقت مبكر من الحرب الباردة، والتي كانت تهدف إلى محاولة إلقاء نظرة خاطفة خلف الستار الحديدي في الاتحاد السوفييتي، وقد حققت البرامج المعروفة باسم Project Moby Dick وProject Genetrix، بعض النجاحات والإخفاقات، ولكنها عملت في النهاية بشكل جيد بما يكفي للحفاظ على استمرار هذه التكنولوجيا.. إذن، استخدمت الولايات المتحدة البالونات للتجسس على الكتلة السوفيتية، بدءًا من عام 1953، فيما كان يسمى مشروع «موبي ديك».. وكان ذلك مقدمة لمشروع عام 1956، أول برنامج استخباراتي للمنطاد على ارتفاعات عالية تابع للقوات الجوية الأمريكية، مشروع Genetrix الذي طورته مؤسسة «راند»، على حد تعبير وزارة الخارجية الأمريكية، تم استخدام البالونات «كوسيلة للتغلب على نقص الاستخبارات الفوتوغرافية والأرصاد الجوية على الكتلة الأرضية للكتلة السوفيتية».

في حين أن البالونات بعيدة كل البعد عن الشكل الأكثر سرية للاستخبارات، إلا أنها لا تزال جزءًا من معظم جهود المراقبة الحكومية الرئيسية- على الأقل في بعض الصفات-  وقد استخدمتها القوات الأمريكية في الحرب في أفغانستان، ولا تزال جزءًا من العمليات العسكرية حتى اليوم.. من الواضح أن الولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي ترى قيمة في هذه التكنولوجيا.. وقد أرتها الصين جزءًا من عبقرية هذه التكنولوجيا، حين اخترق بالون بكين أجواءها، وربض طويلًا فوق أرضها.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.