رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من «الفرعون» إلى «الحاكم بأمر الله»

يمكن القول بأن مسألة دخول أقباط مصر فى الإسلام لم تشغل بال الفاتح العربى، فكما تعلم أن عمرو بن العاص تصالح مع المقوقس على دفع جزية دينارين عن كل مواطن قبطى، بعد أن رفض القبط الدخول فى دين العرب، وإيثارهم الصلح على استمرار القتال. وكان عمرو أول والٍ على مصر بعد دخول العرب، وقد أمّن الأقباط على عبادتهم وكنائسهم وكفل لهم ذلك، واكتفى بالجباية منهم، وجمع الوالى مبالغ مالية كبيرة أدخلت البهجة على الخليفة عثمان بن عفان، ومن بعده خلفاء بنى أمية، حيث كان خراج مصر واحدًا من أبرز مصادر تمويل دولة الخلافة. 

كان عمرو بن العاص إذن حاكمًا إداريًا لا علاقة له بدين الشعب الذى تمسك بعقيدته ورفض الدخول فى الإسلام، واشتمل عهد الأمان المبرم بين الطرفين على ما هو إدارى «دنانير الجزية والخراج» وما هو دينى «منح الأقباط حرية دينية كاملة». ليس معنى ذلك أن عمرو كان يفصل بين الزعامتين الدينية والسياسية، إذ مارس الزعامة الدينية على العرب المسلمين الذين عاشوا فى مصر بعد الفتح. 

بدأت الأمور تختلف نسبيًا فى عهد الولاة الأمويين من بيت «مروان بن الحكم»، كما حدث عام ٧٠٣م، حين اتخذ الوالى عبدالله بن عبدالملك بن مروان قرارًا بإبطال اللغة القبطية داخل الدواوين وإحلال اللغة العربية مكانها، وذلك خلال خلافة الوليد بن عبدالملك بن مروان، كما فرضت ضرائب على الأديرة والرهبان، وفى بعض الأحوال كان يرسل آباء الكنيسة مبعوثين أو رسائل إلى الخليفة فى دمشق، ثم بغداد «فى العصر العباسى»، للشكوى من مظالم الولاة، وعادة ما كانوا يلقون استجابة، تترجم فى قرارات بإعفاء الرهبان من الدفع، وخفض الجزية على الأقباط من أهل مصر.

فى كل الأحوال بدت علاقة الولاة بالقبط الذين شكلوا غالبية شعب مصر علاقة إدارية اقتصادية فى جوهرها، ولم يعرف أى والٍ منهم فكرة الجمع بين الزعامتين الدينية والسياسية. التحول بدأ يحدث فى العصر الفاطمى، وتحديدًا فى عهد الحاكم بأمر الله، الذى رفع قيمة الجزية المفروضة على الأقباط، ولم يكن يتمتع بالتسامح الدينى مع الآخر، وكانت النتيجة اعتناق العديد من أقباط مصر الإسلام، قناعة أو هروبًا من الجزية، لا نستطيع أن نحدد.

وفى الوقت الذى باتت فيه غالبية أهل مصر من المسلمين، بدأت الولاية الدينية تقترن بالسياسية، فيما يتعلق بسيطرة الحكام عليهم. وبعد زمان كان الولاة فيها يتسمون بأسمائهم، أصبحت الألقاب المعبرة عن الولاية الدينية والسياسية تسيطر على حكام مصر، ظهر ذلك جليًا فى العصر الفاطمى، ثم العصر المملوكى. فابتداءً اتخذ الحاكم الفاطمى لقب خليفة وليس واليًا، وذلك من أجل التأكيد على موقع الخلافة الفاطمية الشيعية كخلافة منافسة للخلافة العباسية السنية فى بغداد. 

تأسست الدولة الفاطمية فى مصر بعد سقوط الدولة الإخشيدية «٣٥٨هـ». وقد دخل المعز لدين الله الفاطمى مصر بعد أن نجح قائده «جوهر الصقلى» فى فتحها عام ٩٦٩م. لقب «معد أبوتميم بن منصور» نفسه بـ«المعز لدين الله»، ومن بعده حكم نزار أبومنصور ولقبه «العزيز بالله»، ثم منصور أبوعلى ولقبه «الحاكم بأمر الله»، من بعد هؤلاء توالى الخلفاء ومعهم الألقاب، ومن بينها «المستنصر بالله»، و«المستعلى بالله»، و«الآمر بأحكام الله»، و«الحافظ لدين الله»، و«الظافر بأمر الله» و«الفائز بنصر الله» وهكذا. 

ومن بعد الدولة الفاطمية اتخذ حكام المماليك الذين تداولوا على حكم مصر العديد من الألقاب ذات التسميع الدينى، مثل «الناصر» و«العادل» و«الظاهر» و«الصالح». يقول قاسم عبده قاسم فى كتابه «سلاطين المماليك»: «اعتمد المماليك فى حكمهم على قوة ذات جناحين، أحدهما يتمثل فى القوة العسكرية للسلطان، وهى القوة التى يجسدها مماليكه، ويتمثل الجناح الثانى فى الواجهة الدينية التى حرص السلاطين على التخفى وراءها طوال ذلك العصر».

بات الحاكم فى مصر الفاطمية والمملوكية يجمع فى يديه كلًا من الرئاسة الدينية والرئاسة الإدارية الدنيوية، فهو مسئول عن إقامة الشرع، كما هو ملتزم بسياسة أمور الناس وإدارة شئون حياتهم. وبلغ الأمر فى عهد الحاكم بأمر الله الفاطمى حد الرجوع إلى فكرة «الحاكم الإله» التى ارتبطت بالعصر الفرعونى. فيزعم «ابن إياس» فى «بدائع الزهور» أن الحاكم بأمر الله ادعى الربوبية من دون الله، كما فعل فرعون، وكان إذا مر أمام العامة فى الطرقات يسجدون ويقولون: «يا محيى يا مميت»، ومن لم يفعل ذلك يضرب عنقه، وكان يدعى أنه يعلم الغيب، ويخبر رجاله بما فعلوه فى بيوتهم، عن طريق نشر مجموعة من العجائز اللائى يتلصصن عليهم ويتتبعون أخبارهم، ثم ينقلونها إلى الحاكم، ليلاعب من حوله بها.

كانت الصبغة الدينية حاضرة أيضًا لدى الحكام المماليك. ففى كل الأحوال كان غطاؤهم الشرعى هو التبعية لدولة الخلافة، سواء العباسية، ثم العثمانية، ورغم المشاعر الرافضة والنظرة الدونية التى نظرها الشعب إلى الحكام المماليك، إذ كان يعتبرهم فى الأول والآخر عبيدًا تم شراؤهم، ثم تسلطنوا على كراسى الحكم بما يملكون من أدوات عسكرية، فإنه كان يدين لهم بالولاء الدينى. يقول صاحب كتاب «سلاطين المماليك»: «وكان الولاء الدينى من جانب المصريين للمماليك بفضل الواجهة الدينية التى جعلتهم حكامًا شرعيين مفوضين من الخليفة، الذى كان دوره فى الأغلب مقتصرًا على إضفاء الشرعية على من يجلس منهم على عرش البلاد، ولم يكن للخليفة من خلافته سوى الاسم».

طيلة العصرين الفاطمى والمملوكى ظل الحاكم يمسك كلتا السلطتين الدينية والمدنية أو الدنيوية فى يده، وتنطبق هذه الحالة على من حكم البلاد من المماليك منذ صلاح الدين الأيوبى وحتى إبراهيم بك ومراد بك أيام الحملة الفرنسية.

نخلص مما سبق إلى أن الحكم العربى الإسلامى لمصر تخلى عن نظرية الحاكم الإله، لكنه سار بأمر العلاقة بين الدين والسياسة خطوة إلى الأمام من خلال اشتقاقه نظرية جديدة، تمثلت فى الحاكم نائب الإله.