رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دموع الورد

جريدة الدستور

 

 

- شاب عشرينى نحيف يرتدى قميصًا أبيض، وبذلة سوداء، ومعطفًا رمادى اللون، يسير بشكل مضطرب شارد الذهن حاملًا بيده باقة من الورد، كانت خطواته أقرب للترنح ويتظاهر بقدرته على السير الذى يزداد صعوبة مع اشتداد برودة الجو والأمطار الغزيرة، ومع ذلك كان حريصًا على ألا ينفرط عقدها أو يصيبها ضرر، على الرغم من كونها قد ذبلت نضارتها وتغير لونها، ظل يقبض عليها بيده بكل قوة وكأنها رمق الأمل الأخير الذى يساعده على الحياة، ظل هكذا إلى أن تعثر بحجر أسقطه أرضًا وتناثر الورد حوله، حاول النهوض ولكن الرجفة التى باتت تصيب يده الفترة الأخيرة من فرط التوتر والتفكير منعته من ذلك، ولم ينجح فى ذلك إلا بعد مساعدة بعض المارة وبعد أن طمأنهم «سيف». 

- قائلًا: لا تقلقوا أنا بخير، لقد تعثرت قدمى أثناء السير فقط، وقدم لهم الشكر. وفى الطريق انْتابَته حالة من الحزن وخيبة الأمل ولسان حاله يقول بحسرة: حتى زخات المطر فشلت فى إخماد لهيب قلبى المشتعل!، ولكنه ورغم كل شىء صمم على أن يستكمل طريقه دون توقف حتى يبلغ هدفه، متجاهلًا حتى نصائح والدته التى حاولت منعه من الخروج ولكن دون جدوى، وبالفعل وبمجرد أن وصل إلى سيارته قادها مسرعًا وانطلق وكأنه يسابق الزمن إلى أن وصل شقته التى هجرها منذ وقوع آخر شجار مع زوجته «حور»، وبمجرد أن اقترب من الباب أصابت يده رجفة مجددًا ولكنها ممزوجة بفرط الشوق والحنين، وكاد قلبه يذوب وهو يتقدم بخطوات بطيئة يغلب عليها الوهن النفسى والجسدى، ودخل الشقة وظل يتفقد كل ركن فيها، حيث رائحة الذكريات الجميلة لا تزال حاضرة بالمكان، كل المواقف التى جمعتهما، حيث الآهات والعبرات وأيضًا الضحكات، وكل اختلاف وائتلاف يدور الآن برأسه كنهر من الذكريات لا ينضب أبدًا، واستمر إلى أن دخل غرفة النوم وارتمى على السرير خائر القوى وظل يردد بصوت خافت: «سيف محارب» أصبح اليوم مستسلمًا لا يقدر على فعل أى شىء بدونك يا «حور»، ظل يرددها حتى انقطع صوته وبدأ كل شىء حوله يدخل فى صمت مطبق وسكون، وأصبحت الفرصة سانحة للحصول على قسط كافٍ من الراحة لم يظفر به منذ وقت طويل، فالمعركة التى يخوضها «سيف» مع جلد الذات وتأنيب الضمير هى الأعنف على الإطلاق، حيث لا هدنة فيها ولا منتصر، ولن يجنى إلا جسدًا يصبح مع الوقت معقلًا للأوجاع وروحًا تحترق ندمًا على ما فات، ولكن قليلًا من البشر من يتعلم الدرس ويملك شجاعة التجاوز.

- وبعد أن راح أخيرًا فى سبات عميق لم تمر سوى فترة وجيزة حتى انتفض من نومه ونهض مسرعًا بعد أن انْتابَته حالة من الذعر مصحوبة برجفة وعرق غزير رغم شدة برودة الجو، وظل يبكى بشكل هيستيرى ويردد: حور حبيبتى وزوجتى أنتِ هُنا، كل شىء يدل على أنك لم تغادرى المكان، عطرك المفضل، آخر هدية قمتِ بشرائها لى، حتى رسائل الحب والتشجيع التى كنتِ تقومين بكتابتها لى بكل أرجاء المنزل.. ظل يبكى بشدة أمام المرآة وهو يقرأ آخر ما كتبته «حور» له، حيث كتبت له: أحبك مهما حدث وإن غاب جسدى فروحى معك أينما كنت.. وبعدها غادرت ولم تعد، حيث توفيت بحادث أثناء عبورها الطريق، وبعد أن انتهى ظل يردد: إنى أسمع صوتك الآن بأذنى، عودى أرجوك.. ولكن سرعان ما تلاشى بكاؤه على غير العادة وتحول إلى انجذاب للمرآة مصحوبًا بنظرات امتزج فيها بين الرعب والحنين والدهشة، حيث انتهى به الأمر إلى فقدان الوعى، حيث كان الملاذ الأخير للهروب من كل ذلك الألم، وما زاد الأمر صعوبة أنه قد نسى هاتفه بالسيارة، مما حال بينه وبين الرد على اتصالات والدته التى ظلت تدعو الله أن يلهم ابنها الصبر وأن يرده لها سالمًا فلم تكن مطمئنة. وظل هكذا غائبًا عن الوعى حتى استفاق على وقع كلمات رقيقة من «حور» وهى تهزه برفق وتخبره بضرورة الاستيقاظ والنهوض سريعًا من فراشه حتى لا يتأخر عن العمل، ليفاجئها على غير العادة باحتضانها بقوة وهو يردد: الحمد لله أنكِ هُنا معى، لن أكرر ما فعلته أمس مرة أخرى. 

- لتبادره بابتسامة صافيه وتقول: لا عليك لقد كان خلافًا بسيطًا وانتهى، ولكن من الواضح أنك رأيت كابوسًا ثقيلًا جدًا.