رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

غزو البلهاء

أغضب الروائى الإيطالى أمبرتو إيكو «١٩٣٢- ٢٠١٦» كثيرين حين قال إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون فى البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا فى أى ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورًا، أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل، إنه غزو البلهاء»، واعتبروا صاحب «اسم الوردة» ضد التقدم وضد التواصل بين الناس وضد الديمقراطية، وبالطبع ضد الرأسمالية العالمية. فى فبراير الماضى، أفادت دراسة أعدتها شركة مراقبة وسائل الإعلام «ملتووتر» ووكالة «وى آر سوشيال» المختصة بوسائل التواصل، ونشرتها وكالة الصحافة الفرنسية أن عدد مستخدمى وسائل التواصل الاجتماعى النشطين ارتفع إلى أكثر من ٥ مليارات شخص، أى نحو ٦٢.٣ فى المائة من سكان العالم، فيسبوك فى مجتمعاتنا منح الحق لكل واحد أن يعبر عن نفسه بالطريقة التى تروق له، ومنح الآخرين التعبير عن إعجابهم أو سخطهم على ما يكتبه، وبالطبع توجد صفحات رائعة يهدف أصحابها إلى التواصل الإيجابى من خلال منشورات تضىء مناطق يحتاج المتابعون إضاءتها، وهؤلاء عادة لا يشعرون بالمرارة والإحباط، وأنا أنتظر منشوراتهم وأتعلم منها وأقدر أصحابها، وهناك من يهدف إلى رسم الابتسامة من خلال نشر الصور أو الأغنيات المبهجة أو الحكايات التى لا تدعى شيئًا أبعد، وفى المقابل توجد مجموعة من الحمقى النرجسيين الذين يعتقدون أنهم يفهمون فى كل شىء، وأنهم أكثر خبرة وموهبة ووطنية، ولولا وجود الأشرار فى الحياة لكانوا فى مكان أفضل، وهؤلاء يتحركون غالبًا فى دوائر محدودة تعانى هى الأخرى من أمراض عدم التحقق حتى لو أظهرت التعليقات غير ذلك، ستجد من يعتقد فى نفسه أنه قادر على إعادة التأريخ للحياة الأدبية فى مصر، فقط لأنه التقى بعض نجوم الكتابة من الراحلين، وغالبًا سيحكى عن مواقف توحى لك بصداقة قوية معهم، وتصل به الجرأة إلى التقليل من شأن كتاب وشعراء ورسامين ونقاد راسخين بجرة قلم، كأنه يريد أن يرسم خريطة جديدة لمسيرة الأدب يكون صاحب شأن فيها، وكأن مستخدمى فيسبوك وقعوا فى عرض ذائقته لكى يفهموا «الدنيا ماشية إزاى؟»، وإذا تأملت منجز هذا المواطن ككاتب أو شاعر أو أى حاجة، لن تجد ما يؤهله للإدلاء برأيه، أحيانًا أتفهم غضب بعضهم من حصول شخص محسوب على جيله على جائزة ما أو تقدير أو وظيفة مرموقة، وأنظر إلى ذلك على أنها غيرة لا تصل إلى حد الكراهية، ولكن مع تردى الأوضاع وغياب من يتم الاحتكام إليهم أصبح الشخص الذى يعتبر نفسه «قعر مجلس» موجودًا بقوة وربما حقق بعض المكاسب من وراء الإطاحة بأسماء لصالح أخرى، وهناك مواطن آخر غالبًا من الذين عاشوا فترة فى الخارج وعاد وفى نيته تعويض سنوات الغربة التى كان محظورًا عليه فيها الحديث فى السياسة أو مناقشة قضايا تسبب له المشاكل هناك، ستجده واثقًا من نفسه وآرائه، وسيدعى معرفته بالكواليس، بجرأة الذى أمن مستقبله المادى ويبحث عن مكانة وسط أشخاص طيبين يجرون خلف لقمة العيش ويحلمون بكتابة جميلة ومستقبل أفضل لأبنائهم، وبالطبع يوجد المواطن الذى اختار الغرب موطنًا له، ومع هذا مشغول بكل كبيرة وصغيرة فى وطنه الذى أصبح لا يطاق، وهذا المواطن «أو المواطنة» يتحدث بحرية يحسد عليها فى الدين والسياسة والاقتصاد، وربما عن تضحياته الكبيرة لرفعة هذا الوطن. البطل الحقيقى، كما قال إيكو، غالبًا ما يكون بطلًا بالصدفة، فهو يحلم بأن يكون جبانًا شريفًا مثل الآخرين!، وبالطبع يوجد نوع عتيق يعرف الجميع تاريخه وتحولاته وانتهازيته، ولكنه بعد أن استراح ماديًا لأسباب خارجية، قرر أن يبتلع حبوب الشجاعة ويزايد على الجميع حتى على الذين شاهدوه وهو يعمل مع رموز الفساد فى الماضى، وبالطبع يوجد المتطرفون الدينيون الذين يعرفون بعضهم بعيدًا عنا ولا أمل فى التواصل معهم، هؤلاء وغيرهم رغم كل شىء لم ينجحوا فى مسعاهم، لم ينظر إليهم الآخرون الأكثر عددًا على أنهم أبطال ولا على أنهم ضحايا، لأن التاريخ لا يكتبه فيسبوك. لا أحد يريد شيئًا من أحد، نريد أن نتعرف على بعضنا من جديد، إذا كان عندك ما يفيد أهلًا بك، نريد أن نتواصل ونتحدث عن الأمل والشعر والسينما ونحكى حكايات ملهمة، ليس شرطًا أن تكون بطلها، لأنك لست بطلًا، أنت شخص بين خمسة مليارات من البشر، والعالم يتفجر بداخل شبكة اتصالات ذات صلة قرابة، فكل شىء يشير إلى كل شىء، وكل شىء يفسر كل شىء، إذا كنت تخشى مؤامرة ما، كما ينصحك إيكو أيضًا، قم أنت بنفسك بإعداد واحدة، وبهذه الطريقة يقع كل من كان سينضم إليها تحت سيطرتك!