رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طبيب «الباطنة» الذى «جعل الشباب يشتمون»

تظهر قيمة الكاتب، أو تأثيره، فيما يخلفه، أو تخلفه كتابته، فى قرائه من أثر، وما يضيفه لهم من قيمة، نفسية أو سلوكية أو معلوماتية، وما يبقى لهم منه من أفكار أو تصورات، أو أيًا كان، فإذا ما رحل ذلك الكاتب بقيت سيرته، وإذا ما جاء ذكر اسمه فى أى سياق، خيرًا كان أم غير ذلك، حلّت روحه بما يليق بها من ذكريات وحكايات، أو مواقف وأفكار، لكن أن يتحول مجرد التلميح بضعف أعماله، أو انتقاده بأى صورة، إلى إشارة لبدء حفلة من البذاءة والسباب وقلة الأدب، فهذا مؤشر لحالة مرضية، لا علاقة لها بالأدب ولا بالكتابة ولا الفن ولا أى شىء سوى «الرداءة» متجسدة فى صورة قطيع.

هذا بالضبط ما حدث وتكرر مرات كثيرة كلما قال أحدهم كلمة، أو كتب تعليقًا يخص أعمال كاتب راحل تخصص فى الكتابة الموجهة للصبية فى سنوات المراهقة وأوائل الشباب، إلى جانب عمله كطبيب للأمراض الباطنة بمدينة طنطا، ويقال إنه طلب أن يُكتب على قبره أنه «جعل الشباب يقرأون»، بينما حقيقة الأمر أنه لا يختلف عن كثير من الكتّاب الذين تحركهم المبيعات أو الشهرة أكثر من أى شىء آخر، سبقه فى ذلك كاتب كان يعتمد لنفسه لقب «أديب الشباب»، ويكتب اسمه الثلاثى أيضًا، وملأ حوائط مصر بعناوين كتبه ولقبه الذى أراد أن يُعرف به «أديب الشباب محمود عبدالرازق عفيفى»، فما الفارق بينه وبين طبيب «الباطنة» سوى أن عفيفى تم إدخاله مستشفى الأمراض العقلية عام ١٩٩٨، ولن يسبنى أحد أو يتهمنى بالجهل والبحث عن الشهرة إذا قلت إن كتاباته كانت ضعيفة أو منقولة من أعمال أخرى، «وهو ما لن أقوله أصلًا، لأننى للأسف لم أطلع على أى من كتبه»؟!

قبل عبدالرازق «توفيق»، كان هناك الكاتب الكبير نبيل فاروق، طبيب الجراحة الذى ولد أيضًا فى مدينة طنطا، وتخصص فى كتابة الروايات البوليسية وأدب الخيال العلمى، وكانت كتبه توزع مئات الآلاف من النسخ التى يشتريها الشباب، لكنه لم يطلب لقبًا ليكتب على قبره، ولم يتمسح فى فئة دون أخرى، ولم يكتب على الحوائط، ولم يبحث لنفسه عن فصيل أو تنظيم «يلعن من يذكره».. ولهذا احتفظ لنفسه ولسيرته ولكتابته بما يليق بهم.

وقبل فاروق أيضًا كانت هناك سلسلة «روايات عبير»، التى كانت طوابير القراء تنتظرها عند باعة الصحف والمجلات، وتزيد أرقام توزيعها عن أضعاف أضعاف ما وزعته كتب طبيب «الباطنة» الموعود كل من يذكره بالشتم والتجريس، وكانت فى مجملها روايات ملخصة ومترجمة عن الأدب العالمى لتناسب شريحة سنية معينة، وكان المصريون «يقرأونها»، شباب وفتيات وربات بيوت متعلمات ناضجات عاقلات، وكان توزيعها يفوق نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس والسحار وغيرهم من كبار الأدباء بمئات الآلاف، بل وكانت ربات البيوت والشباب ينتظرونها كل أسبوع، ولم يدع أحد من كتابها أنه «خلا أى حد يقرا».. هو نوع من الكتابة المسلية لا أكثر ولا أقل، وإن زدت فهى نوع تدريبات الأبناء على القراءة، والاطلاع، واكتساب الخبرات.

فمن أين جاء لطبيب الباطنة وهم أنه هو من «جعل الشباب يقرأون»؟!

ومن أين جاء لأتباعه، أو رفاقه أو قرائه، القول بأنه «أثر فى ٣٠ مليون شاب»؟! أحدهم كتب كده فعلًا، بل وألحق الرقم بعبارة «على الأقل»، وهو رقم لا يستحق الالتفات لكاتبه إلا للسخرية والتحسر على جهل كاتبه بطبيعة القراءة والقرّاء فى بر مصر.

على أننى أظن أنه لو كان ذلك كذلك فبئس القراءة، وبئس الأثر، وبئس الكتابة التى تجعل من قارئها مجرد سبّاب لعان أحمق قليل الأدب، لا يعرف ما الأدب، وما الكتابة، أو ما اختلاف الرأى، لكن الحقيقة التى يتعامى عنها أتباع طبيب «الباطنة» هى أن مقولة «جعل الشباب يقرأون» مقولة مدّعاة، وكاذبة تمامًا، ولا أصل لها، وأغلب الظن أن اللقب الذى أثبتت الأيام صحته، وأنه هو ما يليق به وبذكره، هو أنه هو من «جعل الشباب يشتمون، يتطاولون على كل مختلف فى الرأى». 

ولعله من المناسب هنا أن أذكر أن المرة الوحيدة التى اشتبكت فيها مع أتباعه كانت فى حياته، وتحديدًا فى الأسبوع الأول من أبريل ٢٠١٧، وكانت إحدى الصفحات على موقع «فيسبوك» نشرت صورة له مع عنوان أحد مقالاته، نصه: «عن المتحذلقون.. نحكى».

استفزنى العنوان، فتابعت قراءة التعليقات، ولاحظت ردود الفعل عليها من أتباع ذلك الطبيب وقرائه، ثم قمت بإعادة نشر «البوست» والصورة، مع تعليق نصه: «واحد علق على الخطأ اللى فى الصورة قائلًا إن الصح (عن المتحذلقين). فردوا عليه: انك لمتحذلق.. وأنا بقولهم: وإنكم لبهايم.. وأنتم وكاتبكم جاهلون باللغة.. فالغباء لا يبرر الوقاحة والشهرة لا تبرر الجهل». هكذا كانت الأمور فى حياته، جهلٌ وتطاول، وهكذا هى بعد رحيله، سباب ولعنات لكل مخالف.. وهكذا يحق لى أن أتذكر الآن تلك الواقعة التراثية الشهيرة، عندما سُئل أعرابى «كيف عرفت الله؟»، فكان رده: «البَعرةُ تدل على البعير، والأثَر يدل على المسير».. 

هذا هو الأثر.. وهذه هى البعرة، وهذا هو المسير.