رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخير فينا فلا تقلقوا

كلما ضاقت علينا أسباب الحياة فشعرنا بالخوف من المستقبل، وزادت حالات الترهيب من جشع بعض البشر وتغولهم وفقدانهم الإحساس بآدميتهم، أرسل الله إلينا واحدة من المبشرات التي تبعث على الاطمئنان وتؤكد أننا بشر لا نزال. فمع ارتفاع موجة الغلاء التي تشهدها الأسواق نتيجة لعوامل داخلية وخارجية - لسنا بصدد الحديث عنها الآن - نرى أن الله سبحانه قد هدى أولي أمر الجمعيات الأهلية في منتصف مارس الماضي لتنظيم صفوفهم وتكوين تحالف وطني للعمل الأهلي. وهو ما نستعيد معه واحدة من الصفات الحميدة لأمتنا، فالكرم واحد من خصال العربي الأصيل، حتى أن زهير بن أبي سلمى وصف الكريم بأنه "تراه إذا ما جئته متهللًا.. كأنك تعطيه ما أنت سائله".
وخلال أقل من عام واحد، ينجح التحالف في إنجاز الدور المستهدف بكفاءة تحسب للقائمين عليه، الجميل في الأمر أن هذا التحالف يعطي رسالة على تغير جذري في طريقة التفكير، فقد جرت العادة على "الفردية" في مجال العمل التطوعي، حتى بلغ الأمر ببعض فاعلي الخير أن يؤسسوا منظمات مجتمع مدني من أفراد أسرتهم الصغيرة. وقد يجد هذا الناشط المجتمعي من المبررات ما يقنعك بصحة موقفه، وخاصة إذا تمكن من تحقيق بعض أهدافه بنجاح نتيجة عدم الانشغال بصراعات داخل المؤسسة الأهلية التي شكلها، لكن نجاح تجربة التحالف التي تابعناها على مدار عام التأسيس، وتجلّت مخرجاتها واتضحت خلال انعقاد مؤتمر التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي، إذ ثبت لنا بما لا يدع مجالًا للريبة صحة الشعار الذي علمونا إياه في المدارس قديمًا أن "يد الله مع الجماعة".
وقد جاء في مستهل سورة المائدة قوله تعالى ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ أي: ليعن بعضكم بعضًا على البر، وهو - كما جاء في تفسير السعدي-: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأعمال الظاهرة والباطنة، من حقوق الله وحقوق الآدميين.
بالفعل ما تم إنجازه خلال عام واحد من عمر التحالف ما كان لكبرى المؤسسات أن تنجزه لو بقيت تعمل بمعزل عن غيرها من المؤسسات، فبعد أن وصل عدد مؤسسات المجتمع المدني المشهرة في مصر نحو 16.800 ألف مؤسسة، صار وجود كيان مؤسسي ينظم عمل هذه المؤسسات ويصلح مسار من حاد عن الأهداف أمرًا حتميًا . وحبذا لو كان هذا الكيان من داخل المؤسسات ذاتها، وليس جهة رقابية أو تنظيمًا حكوميًا كوزارة التضامن التي يتمثل دورها في الرقابة ومتابعة الأداء، وليس الانخراط في العمل ذاته.
يدرك العاملون في العمل الأهلي التطوعي، وجود بعض الحالات التي تمتهن التسول، وتحترف التردد على مختلف جهات الخير فتصيب من هذا معونة، وتتسول من ذاك راتبًا، وتنتزع من غيرهما ما لا تستحقه، في حين أن هناك أسرًا كثيرة تتعفف عن أن تمد يدها رغم شدة فاقتها وحاجتها لما يلبي متطلبات ضرورية لابن في التعليم، أو زوجة مريضة مقعدة، أو رب أسرة موظف لا يكفي راتبه للوفاء بالحد الأدنى من الالتزامات، فيموت كل يوم- وهو حي أمام أولاده- قهرًا أمام عجزه عن الوفاء بالحد الأدنى من احتياجات بنيه. وهنا كان ظهور الاتحاد، ثم عمل قاعدة بيانات مشتركة تجنب القائمين على المؤسسات الأهلية التعرض لنصب محترفي التسول ومدّعي الحاجة، بينما هم في الحقيقة أصحاب أملاك يطعمون أولادهم - سحتًا- كأفضل مما يفعل صاحب العطاء نفسه.
أمر آخر يستنزف أموال أهل الخير ويوجهها في غير وجهتها الصحيحة، هو مسارعة الناس إلى التبرع لإنشاء دور العبادة، وهذا خير لا ننكره ولا ندعو للتوقف عنه، خاصة إذا كان المستهدف ترميمه أو بناؤه مسجدًا جامعًا يضم أبناء حي كامل أو قرية بأكملها، لكن أن تجد في كل قرية ما يزيد على سبعة أو ثمانية مساجد لا يبتعد أحدها عن الآخر مئات الأمتار، وحين يدعو الداعي للصلاة الجامعة تجد أن رواد كل مسجد منها لا يزيد عددهم على عشرة مصلين وربما أقل.
فلم يعد أهل القرى يجتمعون إلا في عزاء أحدهم أو عند تشييع جنازته، أليس من الأجدى لو كانت الأموال التي جمعت لإقامة تلك المنشآت قد وجهت للمساهمة في تزويج فتاة يتيمة أو شاب يريد العفاف، أو أنها أنفقت في إعانة ولي أمر على تعليم أولاده أو للتبرع بثمن دواء لمريض أنهكه الفقر قبل أن ينهشه المرض؟
والجميل في أمر التحالف الوطني هو منهجية العمل التي ابتكرها وآلية التعامل مع المواقف من خلال ميثاق وضعه القائمون على التحالف، فضلًا عن تنوع مجال خدماته لتمتد إلى نواح كثيرة وقطاعات شتى للعمل التنموي كالمجالات الخدمية والصحية والتوعوية والتعليمية والعمرانية وغيرها.
والأجمل في رأيي هو تراجع كبار رجال العمل التطوعي لإفساح المجال أمام جيل جديد من القيادات المؤهلة للعمل في هذا القطاع بآليات العصر وبرؤى إدارية وإنسانية أكثر حداثة، وقد سعدنا بحديث بعضهم خلال حضور الرئيس للمؤتمر الأول للعمل الأهلي التنموي.
إن دولة عظيمة بحجم مصر وقيمتها، لها تاريخ طويل من العمل التطوعي الممتد منذ عام 1821 حين تم إنشاء أول جمعية أهلية باسم الجمعية اليونانية بالإسكندرية، وتواصل بعدها جهد الجمعيات في قطاعات شتى وتحت مسميات متعددة، يحق لها اليوم أن تنتقل بالعمل التطوعي نقلة نوعية حضارية تستهدف مزيدًا من التنظيم والعصرنة والتطوير في الأداء.
ويستحق القائمون على شأن تلك المؤسسات وهذا الاتحاد على وجه التحديد أن نشيد بجهدهم وأن نمتدح عطاءهم وأن ندعم توجهاتهم، فلم يكن أقل من أن يشاركهم الرئيس السيسي بنفسه مؤتمرهم وأن يشيد بنشاطهم.