رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وائل فاروق (2-3): الحداثة مفهوم تخطاه التاريخ.. وأعكف على دراسة الفتوى لغويًا

بورتريه للباحث بروفيسور
بورتريه للباحث بروفيسور وائل فاروق .

 

 

 الدكتور المصري وائل فاروق أستاذ اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب واللغات الأجنبية بالجامعة الكاثوليكية بميلانو من مواليد القاهرة يعمل أستاذ للغة العربية وآدابها في كلية الآداب واللغات الأجنبية بالجامعة الكاثوليكية بميلانو .أستاذ زائر للغة والثقافة العربية في كلية الآداب واللغات الأجنبية بالجامعة الكاثوليكية بميلانو.

قدم الكثير من الرؤى الفريدة فيما يخص خطابات اللغة والسرد العربي في الرواية والشعر عروجا لليال ألف ليلة وتلك السرديات الكبرى و العظيمة التى أثرت وتأثر بها كتاب العالم أجمع.

صورة لغلاف أحدى ترجمات الباحث وائل فاروق.

د.فاروق له كذلك العديد من الأبحاث والرؤى المنجزة والمتفرد ةفي علوم اللغة العربية وآدابها وعلاقتها بالآخر في الثقافة الغربية/ الأوروبية كذلك تناولاته بالبحث الدلالي والجمالي في نصوص كتاب كان لهم الفضل في تأطير وبلورة الفكر والفن والأداب العربية غبر مدارس شتى في لغات الرمز والإستعارة والكناية وكذلك الشعرية، وائل فاروق يمثل في النهاية همزة وصل هامة وحاذقة للإنفتاح على الآخر الغربي/ الأوروبي/ الإيطالي، الدستور التقته وكان السؤال.

بورتريه للشاعر اللبناني وديع سعادة الذي تناوله الباحث وائل فاروق في ترجماته ورؤيته للشعر.

_ الحداثة مثلا وما بعد الحداثة، هل هناك رؤية علمية/ نظرية، من خلال واقع الدول والحضارات في الغرب يطرحها البروفيسور وائل فاروق في هذا الإطار؟

في ثلاثينيات القرن الماضي قدس اليابانيون هيروهيتو الامبراطور الإله الذي قادهم إلى تحقيق نهضة اقتصادية وبناء قوة عسكرية مكنتهم من السيطرة على مساحات واسعة من العالم، بعد الهزيمة المخزية لليابان في الحرب احتفظ الإمبراطور بقداسته، إلا أنها كانت قد فقدت معناها ليس فقط لأن الإمبراطور قد تحول إلى مجرد ديكور ولكن لأن الإمبراطور الإله قد قاد شعبه إلى تدمير بلاد الآخرين قبل أن يدمر بلاده نفسها، هكذا بدأ اليابانيون يطلقون عليه اللاشيء المقدس. اللاشيء المقدس هي أفضل عبارة نصف بها الآليات والشروط التي تمارس بها قيم الحضارة الغربية اليوم، حيث يتم تفريغ هذه القيم من معناها بالرغم من تقديس الجميع لها، مثل قيمة الحرية التي أصبحت لأوّل مرّة في التاريخ خبرة جماعيّة، حيث ينظر إلى الحرية اليوم على أنها انفتاح على المطلق، على المجهول، وهو ما يجعلها محاولة دؤوبة للانسلاخ من الواقع، لم يعد التحرر مجرد فعل يهدف التخلص من القيود الاجتماعية أو السياسية أو القانونية، وإنما سعي للانعتاق من كل روابط الماضي والحاضر، ليست الحرية إذن دفاعا عن معنى نؤمن به للحياة، أو هوية نراها محدِّدة لوجودنا، الحرية اليوم هي التخلص من هذه الأشياء التي ترسم حدودا للذات وتحد من الانفتاح على اللاشيء، على ذلك الذي لم نعرفه بعد، وبالتالي نحن عاجزون عن تسميته، ولماذا يجب أن ننشغل بالأسماء ونحن نعيش في عالم ما بعد الأسماء؛ مابعد الحداثة، ما بعد الصناعة، ما بعد الكولونيالية، مابعد التاريخ، وأخيرا ما بعد الحقيقة.

_ في رأيك هل يعتبر هذا الطرح  صراع نظريات سياسية بين كافة تيارات وآليات ومسميات وقوانين حكم السياسي على المعرفي الثقافي؟

هذه النزعة نحو اللاشيء يغذّيها على السواء الجناح الفكري السياسيّ اليساريّ الذي يرفع شعار "أنا مشرِّعٌ لنفسي"؛ و كذلك الجناح الفكري السياسي اليمينيّ الذي يختصر دفاعه عن الحرية في شعار "تتّسع حرّية كلّ امريء بمقدار ما تتعدّد الخيارات المطروحة عليه" وبالطبع لا تتسع الخيارات دون التحرر من التحيزات التي يتسع مفهومها ليشمل كل مفردات الذات والواقع الذي نعيش فيه، ومرة أخرى نحن لا نتحدث هنا على المستوى النظري وإنما عن ممارسة يومية في حياة الأشخاص العاديين، فمثلا سألت أحد مدارس إقليم فينيتو وعاصمته مدينة فينسيا، أولياء أمور الطلاب إذا كانوا يوافقون على خضوع أبنائهم لاختبارات تساعدهم على التعرف على هويتهم الجنسية؛ وعندما سأل أحد أولياء الأمور عن ماذا يقصدون بكلمة هوية، قيل له: نحن نولد ذكور وإناث ولكننا نكون رجالا أو نساء حسب اختيارنا، كما تعرف "الرجل" و"المرأة" وغيرها ليست إلا مفاهيم ثقافية لدينا مطلق الحرية في قبولها أو رفضها. لست بصدد إصدار أي حكم أخلاقي هنا ولكنى أرصد فقط هذا الفهم للحرية بوصفها "انفصالا"، بوصفها حالة من الرفض الأوديبيّ ليس فقط للأب والتراث وإنما للواقع كذلك، ليصبح – في إطار هذه النزعة - الحديث عن تحقيق الذات مجرد انفتاح ساذج تجاه جديد مجهول، كثيرا ما ينحدر باتجاه السخيف والمُنافي للعقل. إنّ حريّة مطلقة – أي منفصلة عن كلّ شيء – تنتهي بهذا الشكل إلى ذلك "الهراء السامي" الذي يتحدث عنه إيزكس. أو تنتهي، في شكلها الأدنى، إلى الاكتفاء بملذّات صغيرة متسلسلة تحاول أن تُشبع ذاتيّة لا أساس لها.

_ إذاً ماهي خلاصة رؤيتك أو نظريتك لمفهوم ما بعد الحداثة في إطار مساهماتك وإنخراطك في هذه الأفاق والمسارات عن المخفي والمقصود والمطروح من الآخر وتحديداً الغربي؟

هذه هي ثقافة ما بعد الحداثة التي تستوعب دون حدود أو تحفظات مجموعة من الحركات -تكون غالبا متضاربة ومتعارضة- التي ظهرت في البلدان الغنية في أوربا والبلدان ذات الأصول الأوروبية؛ كندا و أمريكا، في الفن والعمارة والأدب والموسيقى والعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية. المقاربات ما بعد الحداثية، أو توصيفات "الشرط ما بعد الحداثي" التي تصف حالتنا المعرفية الراهنة ظهرت في مواجهة السعي الحداثي إلى السلطة وإلى التقدم وإلى الكونية وإلى العقلانية ، في مواجهة سعي الحداثة إلى إخضاع كل الظواهر للنظام وسعيها إلى إرساء المعايير المتسقة للدعاوي المعرفية، هكذا تتضمن ما بعد الحداثة مساءلة جذرية للأسس التي تنبني عليها الدعاوي المعرفية ولهذا فهي تتصف بحس تحرري تجاه ما تفرضه الممارسات السابقة من قيود. وقد تولَّد عن بروز ما بعد الحداثة العديد من المقاربات الجديدة كلية؛ مثل الدراسات الثقافية، الدراسات النسوية مثل أعمال هيكمان، دراسات المثلية الجنسية، دراسات النوع الاجتماعي، وما بعد الكولونيالية... وعلى الرغم من ذلك صارت ما بعد الحداثة اليوم نموذجاً إرشادياً مسيطراً أصبح هو نفسه موضع مساءلة كمُمَارسة مُقَيَّدة للوعي. 

_ وهل هناك ثمة علاقة بين ما طرحت من تصور وبين نماذج ما بعد الحداثة في طور وأفاق ماأصطلح على تسميته _ ببنية الثورات العلمية؟

ما بعد الحداثة كنموذج إرشاردي –وهو تعبير مستعار من توماس كون من كتابه "بنية الثورات العلمية"– هي العبارة التي تصف بإيجاز طبيعة حضور ما بعد الحداثة في وعي المبدعين والنقاد الجدد في العالم العربي، وعلى الرغم من أن هذا المصير هو ما قامت مابعد الحداثة بكل الألعاب والخدع الممكنة حتى لا تنتهي إليه؛ إلا أنه كان ما ابتدأت به حضورها في الأوساط الثقافية العربية، لا سيما وأن قطاعًا لا بأس به من مثقفيها يميل ناحية اليسار وهو الأمر الذي جعل وجها واحدا من وجوه الحداثة هو الأكثر حضورا في الوعي نتيجة للانتقائية الأيديولوجية في الترجمة، هكذا نجد أنه في حين تعادي ما بعد الحداثة المعنى حيث "كل الخطابات مجرد "كولاج"، و حيث لا مركز تنطلق منه ولا معنى مستقر تعود إليه “ فإننا نجد كثيرا من المبدعين والنقاد يرفعونها شعارا ويسلكونها طريقا للدفاع عن المعنى والإنسان، لأن “لما بعد الحداثة وجهان، أحدهما تتشكل ملامحه من التشظي والطبيعة اللامستقرة للوجود، والثاني يطل من المنظور الماركسي الذي يقدمه جيمسون الذي يرى في ما بعد الحداثة مرحلة متأخرة من الرأسمالية “ تحمل مظاهرها ووسائل مقاومتها في الآن نفسه، على الجانب الآخر تم استقبال ما بعد الحداثة كعلامة مسجلة على الجدة، فصار "الجديد" والراهن مرادفا لما بعد الحداثة ويحمل سماتها وذلك على الرغم من نفورها من ثنائية القديم والجديد “ففي عالم يتعذر فيه الابتكار الأسلوبي لا يتبقى لنا سوى محاكاة أساليب ميتة، والحديث من خلال أقنعة وأصوات تنتمي لأساليب محفوظة في متحف وهمي، ولكن هذا معناه أن الفن المعاصر أو فن ما بعد الحداثة سيتناول الفن ذاته بأسلوب جديد، بل إن رسالة أساسية من رسائل هذا الفن ستغدو إعلان الفشل الحتمي للفن والاستطيقا، أي فشل الجديد و"السجن في الماضي.

_ وماذا أو كيف كان تعامل المثقف العربي مع مسارات الحداثة الثلاث التى لم توضحها في ثنايا طروحاتك؟.

تفاعُل الفكر الإبداعي العربي المعاصر مع ما بعد الحداثة مضى في مسارات ثلاثة، الأول يرى مابعد الحداثة ظاهرة جمالية لا حضور لها إلا في الفنون الرفيعة النخبوية وهو ما يتناقض بشدة مع شعبوية مابعد الحداثة ومعاداتها للفن الرفيع ومؤسساته والثاني ينظر إليها بوصفها طوق نجاة من التبعية حيث تقوم بتفيكيك الذات الغربية وتنتقد تمحورها حول ذاتها وهو ما يعطي مساحة لثقافات الأطراف للمشاركة في تشكيل العالم الذي تعيش فيه وهذا أيضا يتناقض مع ما تقرره كثير من المصادر من أن ما بعد الحداثة أصبحت اليوم نموذجاً إرشادياً مسيطراً أصبح هو نفسه موضع مساءلة كمُمَارسة مُقَيَّدة للوعي بل إن هناك من يذهب إلى أن "أشد الأفكار رجعية ومعاداة للتنوير يتم طرحها بإبتسامة وتأكيد على أنه إذا تم إتباعها حتى نهايتها المنطقية فإنها ستقودنا إلى أرض الديمقراطية الموعودة ، أما التيار الثالث والأخير فهو ينظر إليها بوصفها شرّاً مستطيراً،“يقال كثيرا في أيامنا إن الحداثة أصبحت مفهوما تخطاه التاريخ. أزعم أن هذا القول لا معنى له من حيث المبدأ. فإن كان تعريف الحداثة هو أن (الإنسان) يصنع تاريخه، فإن هذه المقولة غير قابلة للتجاوز بالمرة، إلا أن مراحل الأزمات الكبرى، ـ ونحن نجتاز حاليا مرحلة من هذا النوع، تتسم دائما بميل إلى الردة نحو الماضي، أي ما قبل الحداثة، وبالتالي يقال إن الواقع قد أثبت أن الإنسان لا يصنع تاريخه، ولو أنه يتصور ذلك، ويقال إن التاريخ مفروض عليه في واقع الأمر، وأن هذا التاريخ ناتج "قوى" خارجة عن إرادته. فالتاريخ لا يتجه في اتجاه متماش مع أهداف النشاط البشري الواعي. فكل ما هو ممكن إذن، في هذه الظروف إنما هو محاولة اكتشاف تلك القوانين التي تفرض نفسها على تاريخ البشر، ثم التكيف مع مقتضياتها، وبناء على ذلك يُقترح التراجع إلى مواقع لا تتجاوز في طموحاتها إدارة هذا التاريخ الذي لا معنى له. علما بأن المقصود بإدارة المجتمع، هنا، هو مجرد إدارة التعددية الديمقراطية في الأجل القصير وتحسين الأوضاع هنا وهناك، دون الاهتمام بالأهداف طويلة الأجل. بمعنى آخر، فإن هذا يعني قبول جوهر النظام، أي سيادة السوق وهيمنة الاقتصاد السياسي للرأسمالية، قطعا نستطيع أن نتصور الأسباب التي دفعت في هذا الاتجاه، ومنها بالأساس الاختلاط الذي ترتب على تآكل، ثم انهيار المشروعات الكبرى للعصر السابق، مثل مشروع بناء الاشتراكية ومشروع الدولة الوطنية، إلخ... على أن إدراك الأسباب التي أنتجت وضعا معينا شيء، والاعتقاد أن هذا الوضع مستديم، أو بالأولى نهائي كما تعلن عن  أطروحة "نهاية التاريخ" هو شيء آخر."

 _ وهل لهذه الأطروحات ثمة تجليات بين ما أصطلح على تسميته تجليات الحضارات العلمية والخطاب الثقافي المعرفي الغربي والذي صدر تحت مسمى " نهاية التاريخ" ؟

 لعل هذا الموقف أيضا لا يخلو من مبالغة فمابعد الحداثة وليدة شرط إنساني يعيشه المركز والأطراف على حد سواء، فثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات طالت كل شبر في كل مجتمع إنساني في العالم اليوم، فهي ليست مجرد أفكار أو معتقدات، بل هي وعي متغلغل في الحياة اليومية لكل فرد منا.

صورة لغلاف كتاب الاختباء في تجارب ما بعد حداثية للدكتور وائل فاروق.