رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ممدوح النابي: كتابات طه حسين تحمل الإرهاصات الأولى للنقد الثقافي العربي (حوار)

الناقد المصري ممدوح
الناقد المصري ممدوح النابي

يقدم الناقد والأكاديمي المصري ممدوح فرّاج النابي في كتابه "البلاغة العمياء: بحث في الخيال الرحلي عند طه حسين"، دراسة في أدب الرحلة عند طه حسين بالتطبيق على كتابه "رحلة الربيع والصيف"، وهما رحلتان قام بهما طه حسين إلى اليونان وباريس. يستكشف "النابي" في كتابه، كما أشار في حواره معنا، "التقنيات التي لعب عليها طه حسين ليستفيد من الحواس اللابصريّة في الكتابة كالسمع واللمس والشم والإدراك"، وينطلق من ذلك ليُبين الدور النهضوي المركزي الذي قام به طه حسين في معركة العلاقة مع الآخر. 

فاز "النابي" أخيرًا بجائزة "ابن بطوطة لأدب الرحلة"؛ التابعة لمركز ارتياد الآفاق بأبي ظبي ولندن، دورة (2022- 2023) عن كتابه "البلاغة العمياء"، وكان قد تُوُج عن أعمال نقدية أخرى بجوائز منها جائزة "كتارا" وجائزة "طه حسين" وغيرهما من الجوائز. 

"الدستور" حاورت الناقد المصري حول عمله الأحدث وأبرز ما يكشفه من جوانب جديدة عن طه حسين، لا سيّما وأن النابي يولي اهتمامًا خاصًا بطه حسين في أعمال نقدية أخرى، بالإضافة إلى مناقشة دور الجائزة في إعادة الاهتمام بأدب الرحلة وما تمثله له في مسيرته النقدية.

غلاف الكتاب الفائز بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة 

علاقة مُبكرة بطه حسين

يكشف الناقد المصري أن عديدًا من الدوافع قد قادته إلى الاهتمام بطه حسين وأعماله بوجه عام، فيقول: "لا أخفي أن ثمة دوافع شخصية تربطني بطه حسين، فعلاقتي بطه حسين بدأت في مرحلة مبكرة، وزادت في الجامعة. كان أوّل ما لفت انتباهي في كتاباته هو الجملة المنمّقة ذات الجرس الموسيقي الرنان، إيقاعها لا يفارق الذهن مطلقًا، وهو ما جعلني أكثر ارتباطًا به عن العقاد رغم عقلانية طرح العقاد، وما قربني أكثر من كتاباته جرأته في الطرح، ومحاولة كسر الجمود الفكري كما في كتاب "في الشعر الجاهلي" (الصادر عام 1926)، وكانت المصادفة أنني قرأت النسخة التي نُشرت في مجلة القاهرة العدد (149) أبريل 1995، ثم أعقبتها بالنسخة المنقّحة والتي أسماها "في الأدب الجاهلي" والتي صدرت عام 1927، وقد حذف طه حسين بعض الفصول وأضاف أخرى. 

وقد عدتُ مؤخّرًا في كتابي "استرداد طه حسين" للفصول التي أضافها طه حسين للنسخة الجديدة بعنوان "تاريخ الأدب العربي" ونقده لمناهج تدريس الأدب العربي في الأزهر ودار العلوم والجامعة، واكتشفتُ في هذه الفصول الجديدة، أنها كانت بمثابة بيان مُضمر بالأسباب التي أدت إلى الهجوم على كتابه "في الشعر الجاهلي"، فقصور المناهج نتج عنه قصور في الفَهم ومن ثمّ قصور في التأويل والدلالة، وهو ما أنتهى بالصدام مع ممثلي المناهج القديمة".

ويتابع النابي: "زادت علاقتي به بعد أن حصلت على جائزة طه حسين مرتين التي يمنحها مركز رامتان الثقافي في القاهرة، والجائزة كانت حافزًا لأن أعيد النظر في كتاباته من جديد، وفي كل مرة أكتشف أنني لم أقرأه جيدًا، وأن هناك أفكارًا غاية في الأهمية طرحها في كتابته ومررت عليها مرور الكرام، وبالمثل السياقات التي كتب فيها كتبه، على سبيل المثال نتأمّل الفترة التي كتب فيها كتابه "الفتنة الكبرى" بجزأيه "عثمان بن عفان" (1947)، و"علي وبنوه" (1953)، سنكتشف أنه كتبهما أثناء صراع الأحزاب السياسية، في إشارة ذات مغزى بأن الأزمات السياسيّة التي حاقت بمصر بسبب الصّراع بين الأحزاب السياسيّة في ما بينها من جهة، وبين الأحزاب السياسيّة والسراي من جهة ثانية، والتدخلات الإنجليزية السّافرة من جهة ثالثة، قد تُبشّر بمثل هذا المصير الفاجع للخلافة الإسلامية، الذي بدأ مع مقتل الخليفة عثمان، فعينه على الحاضر وخشيته أن يتكرّر ما حدث في الماضي (من هزيمة واحتراب)".

إرهاص بنقد ثقافي عربي

يلفت النابي إلى أنه لم يقرأ نتاجات طه حسين وفق منهج معين مسبق، موضحًا: "كتابات طه حسين (على الرغم من أن النقاد يدرجونه ضمن فئة نُقاد المنهج التاريخي وهذا صحيح) تحمل الإرهاصات الأولى للنقد الثقافي في ثقافتنا العربية، وسأضرب مثالاً بكتابه "من بعيد" فالمتأمل له سيكتشف رؤيا مختلفة، فهو يهتم فيه بالظواهر الثقافيّة، فعلى سبيل المثال ثمة مقالة مهمة عن ظاهرة الفنانة "سارة برنار"، بل يرصد تأثير هذه الفنانة على الجمهور، من خلال قراءته لمراسم جنازتها التي تصادفت أثناء وجوده في فرنسا، وفي كتاب "صوت باريس" الكثير من الملاحظات المهمة التي تتبع بها ظواهر ثقافية يهتم بها الجمهور الغربي من خلال مشاهداته للمسرحيات".

خصوصية طه حسين في سرد الرحلة

يوضح النابي أن الكتاب ليس متعلّقًا بالرحلة كثيمة اعتمدت عليها رواياته المتعدّدة (سواء رحلات داخليّة أو خارجيّة)، وإنما هو معني بكتاباته عن الرحلة وتحديدًا "رحلة الربيع والصيف" إلى اليونان وباريس، والتي قام بها مع أفراد أسرته رفقة بعض الأصدقاء، فمع إنها تنتهج آليات النصوص الرحليّة، إلا أنها تختلف عنها. 

وعن هذه الاختلافات يقول: "عمد طه حسين في رحلته إلى كسر تلك القاعدة المتعارف عليها في أدبيات الرحلة (أو الأدب الجغرافي)، بأن الرحلة يقوم بها المبصرون، وأثبت- بلا ريبة - أن الإنسان رغم فقدانه لنعمة البصر (العجز العضوي) يمكن أن يخوض هذا الميدان، ويقدّم عملًا متميزًا لا يكتفي بنقل مشاهدات مرافقه إليه (الذي كان بمثابة عينه المبصرة) أو الراوي الوسيط (المُـلقِّن) على الأماكن التي زارها وجاب رحابها، فالوصف لم يكن مباشرًا وإنما جاء عبر راوٍ (عين رحّالة) وسيط، قام بنقل المشاهدات والأماكن بمنظور رؤيته الشخصيّة / وأيديولوجيا السّارد، وهذا الراوي / الرحالة لم يكن شخصًا واحدًا، أو راويًّا ثابتًا وإنما كان متعدّدًا، وهو ما يشير بطرف خفي إلى تعدُّد أيديولوجيا السّارد؛ فتارة يأتي الرّوي عن طريق الزوجة وتارة أخرى يكون بلسان الأصدقاء ".

استرداد طه حسين 

غلاف كتاب “استرداد طه حسين”

كان "النابي" قد أصدر من قبل كتابًا بعنوان "استرداد طه حسين"، الذي يشير إلى أنه دراسة فكر وأدب طه حسين، فهو عبارة عن مجموعة من الدراسات تتصل بأهم القضايا التي طرحها طه حسين في كتاباته مثل الشعر الجاهلي، وتجديد ذكرى أبي العلاء، ومستقبل الثقافة في مصر، والأيام، وجزء منها متعلّق بالإشكاليات التي أثارتها هذه الأعمال، على نحو خلافه مع أحمد ضيف، أو ما حدث مع "مذكراته" التي تمّ تشويهها بحذف فصول منها وتغيير عنوانها إلى "العمامة والطربوش"، وأيضًا الإشارة إلى بعض وجوه طه حسين كالناقد المعنّف، ودوافع هذا العنف الذي مارسه على نفسه قبل أن يُمارسه على أصدقائه وتلاميذه دون هوادة. وأيضًا وجه طه حسين العاشق ليس كما تجلّى في رسائله إلى زوجته سوزان، على نحو ما جاء في "الأيام" وكتابها "معك"، وإنما عبر ما صاغه من مفهوم للحب، ومرره في رواياته "دعاء الكروان، ما وراء النهر، الحب الضائع".  

الخيال الرحلي عند طه حسين

في المقابل، "ينشغل كتاب "البلاغة العمياء" وحسب عنوانه الفرعي "بحث في الخيال الرحلي عند طه حسين"، بالتقنيات التي لعب عليها طه حسين ليستفيد من الحواس اللابصريّة في الكتابة "كالسمع واللمس والشم والإدراك وما شابه ذلك"، بالتطبيق على كتاب "رحلة الربيع والصيف".

ويُبين النابي أن الدراسة قد توصّلت إلى عدد من النتائج من أبرزها أن نصّ طه حسين الرحليّ يتصل بالنصوص الأولى التي تعدُّ الدعامة الأساسيّة لأدب الرحلة أو ما يمكن وصفه على الإطلاق بـ"الأدب الجغرافي" بوصفه المدخل الأساسي الذي يكشف طبيعة نظرة العربي إلى ذاته، ونظرته إلى الآخر في معركة الصراع الحضاري مع الآخر، صراع الهويات / الأنا في مقابل الآخر.

ويضيف: "الأهم أن الدراسة أشارت إلى الدور النهضوي الذي لعبه طه حسين كجسر ثقافي، عمل على تقريب الثقافات المختلفة، والحقيقة أنني توقفت فقط عند هذا الدور كما ظهر في رحلته، لكن في ظني يحتاج إلى دراسة مستفيضة تكشف الدور النهضوي الكبير الذي لعبه طه حسين؛ حيث نقل إلى العربية الكثير من آثار الحضارة الغربية فكريًّا وأدبيًّا وحضاريًّا؛ وهو دور مهم جعله في مقدمة التنويرين النهضويين". 

كما كشفت الدراسة أن هناك نقطة التقاء بين أجواء رحلة "رفاعة رافع الطهطاوي" (1801- 1873) المعروفة بـ "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" (1934)، وهي الرحلة التي كانت نقطة الاتصال الحقيقي بمعالم النهضة والتنوير الأوروبي، ومحاولة نقل هذه التجربة إلى الواقع المصري، فسار العميد طه حسين في رحلته "رحلة الربيع والصيف" على نفس منوال رفاعة الطهطاوي، في محاولة نقل التجربة، وإن كان طه حسين لا يكتفي بوصف المعالم الأثرية والتاريخيّة أو حتى التغيرات التي حلّت على المجتمع الفرنسي مع قدوم التكنولوجيا ممثلة في الراديو، وإنما إلى جانب هذا وذاك يعقد المقارنات بين هناك وهنا، بغية التحفيز على الأخذ بإشارات النهضة، وعلامات الحداثة التي شقت طريقها هناك (باريس) ويريدها هنا في(مصر).

أهمية جائزة ابن بطوطة

يقول النابي: "يمثل لي الفوز بالجائزة أهمية كبيرة من ناحتين، الأولى أن العمل الفائز متعلّق بطه حسين، بما يمثّله اسم طه حسين من قيمة معنوية كبيرة، وهو ما يمثّل لي من هذه الناحية جائزة أخرى، تدفعني إلى الاستمرار في قراءة منجزه ومحاولة الكشف عن مضمراته، والثانية، تتعلّق باسم الجائزة " ابن بطوطة" واحد من أهم الرحالة العرب، وهي التي يشرف عليها (المركز العربي للأدب الجغرافي) ارتياد الآفاق، فالجائزة لها مكانتها في محيطها العربي، خاصة ما ترنو إليه من فلسفة تهدف إلى إحياء الأدب الرحلي، الذي كانت المكتبة العربية زاخرة به، بل ومميزة جدًّا فيه، ومن ثم وضعه على الخريطة الإبداعية والنقدية، فالعرب أهم منجزاتهم قديمًا كانت في النصوص الرحليّة، وهو ما تعمل الجائزة على التحفيز في الاستمرار عليه، وحضّ الكُتّاب (على اختلافهم) على خوض غمار الرحلة، وما يرادفها من استكشاف للعوالم الجديدة وتقريب الثقافات كي تكون جسرًا حقيقيًّا بين الثقافات والحضارات المختلفة، وهو ما يدعوني لتهنئة المشرفين على الجائزة لاستمرارهم في مشروعهم رغم المحبطات والإكراهات".