رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إيمان خطاب تكتب: من بيت رمبرانت إلى مرسم جورج البهجورى.. رحلة من المكان إلى الزمان والعكس!

إيمان خطاب
إيمان خطاب

عندما كنت تائهة فى شوارع امستردام و فى يدى خريطة أبحث عن بيت رامبرانت الذى مازال قائما كما هو فى مكانه بكل طوابقه والكثير من الأثاث الأصلى وبعض من متعلقات الفنان الهولندى الشهير.

رامبرانت هرمنسزون فان راين الذى ولد فى لايدن بهولندا عام  1606وتوفى عام 1669بامستردام، وقد تمتع  بالشهرة والثروة، فقد تتلمذ على يديه تلاميذ كثر،حيث كانت موهبته وثقافته غير عادية، فقد أستطاع أن يقفز بالفن التشكيلى والتصوير بشكل خاص قفزات مدهشة وجريئة غيرت من مفهوم اللوحة الفنية والبورتريه بشكل خاص فى القرن السابع عشر كأمتداد لعصر النهضة فى اوروبا و كهمزة وصل بين الفنون الكلاسيكية والمدارس الحديثة فى الفن.

كان أسلوب رامبرانت يحتفى بالضوء وتأثيراته ودرجاته المختلفة على الموضوع الذى يرسمه مما مهد  إل اتباع تقنيات و اسلوبا جديدا يعتمد على ومضات الضوء ,فكانت  ارهاصات المدرسة التأثيرية فى الفن .

عندما وجدت الشارع الذى يحتضن هذا البيت العريق منذ أزمان بعيدة, وأنا الفنانة الآتية من الشرق المتشبعة بالثقافة العربية و الدارسة للآداب والفنون الغربية وتاريخ الفن, تملكنى شعورغريب بمقدرتى على أختراق الزمن عن طريق أختراق المكان !

وكان المكان هو هذا البيت الذى عاش وأبدع  فيه رمبرانت لوحاته مابين عامي 1639 و 1656 . والذى تحول الى متحف يحوي رسومات ولوحات الفنان ومعاصريه .

 كنت اتجول بحرية وكأنى من أهل البيت او من أصدقاء الفنان وتلاميذه,  ويتكون المنزل من أربع طوابق لكل منها معالمه,بدأ من  حجرة المطبخ بكل أدواته و الفرن والمدفأة ومخدع الخادمة فى الطابق الأول وحتى الطابق الذى يضم حجرة نوم رامبرانت ثم حجرة الصالون ثم الطابق الأهم بالنسبة لى،و

 

 

 الذى يوجد به مرسمه. حيث توقف الزمن وأنا اقف بين حامل الرسم الخاص به وبين الوانه الخام التي كان يكونها بنفسه وكأننى استدعي روح الفنان نفسه وتترائى لى صورته وهو يرسم وحوله تلامذته الذين خصص لهم حجرة فسيحة مقسمة لاجزاء لكى يجلس كل منهم ليعمل بمعزل عن الآخر .ويضم البيت الفسيح أيضا ,حجرة مقتنياته الفنية التى جمعها من أنحاء العالم والتى تدل على ثقافته 

الواسعة وحبه للحياة . وحجرة أخرى مخصصة لأعماله وتجاربة واسكتشاته الأولية , أنها بالفعل  حياة بأكملها يعيشها المرء عندما يلمس اشياء القدماء ويشعر بدفىء النار ولهيبها وهو يقف بجانب مدفأة من القرن السابع عشر كانت توقد بها النيران لكى يستدفىء بها فنان عبقرى لطالما تصفحت صور لوحاته فى الكتب الفنية وقرأت عنه, وكم هو غريب ومتداخل شعور الفرح الطفولى والدهشة الفنية و الفخر الأنسانى الذى أنتابنى وأنا أجلس على كرسيه الخشبى الصغير أمام حامل الرسم الخاص به !

فى خلال هذة اللحظات والدقائق الثمينة تلاشى الزمن تحت وطأة الحضورالطاغى للمكان القديم المعبء بأنفاس صاحبه , (الفنان المفكر )كما أطلق عليه معاصره  الشاعر الألمانى جوته. أنه رمبرانت الذى بلغ من المجد والثراء مبلغا عظيما ولكنه مات فقيرا مفلسا , كما تقتضى دراما الحياة .

ولكنى بمجرد خروجى من الباب إلى الشارع الذى يضج بالمارة المترجلين وراكبى الدراجات المنتشرين فى المدينة الصاخبة المليئة بالسائحين الذين يتجولون فى كل مكان وحتى الساعات المتأخرة ليلا  بأحذيتهم الرياضية وبنطلوناتهم الجينز الممزقة  , فقد عدت الى القرن الواحد والعشرين وقد عاد بى الزمن بمجرد دفعة بسيطة  لضلفة باب صغير .

 

وها أنا قد وصلت الى عصرالفن المعاصر من خلال اختراق المكان !

لا شك أن وسائل المواصلات المتطورة لم تعد تمنح للأنسان الوقت الكافى لأستيعاب تغير الأمكنة و اخـتلافات الطقس والتوقيت , وأصبح المرء فى خلال ساعات يسنطيع التنقل بين قارات العالم ,من الغرب إلى الشرق كما فعلت ,ولقد وجدت نفسي أقف امام منزل قديم ذو شبابيك زجاجية وخلفها شيش عتيق ,وعلى أسوار شرفته تتراص أحبال الغسيل وفى الركن معلقة على الحائط حزمة الثوم الشهير .

فى غضون ساعات كنت أتجول فى أحد شوارع وسط البلد بالقاهرة ,حيث منزل ومرسم الفنان المصرى الكبير جورج البهجورى .

وبدعوة من فنانين ومن أصدقاء مشتركين , وجدت نفسي اصعد درجات هذا البيت  الصغيرالمتواضع ,فى نفس يوم وصولى إلى القاهرة , وكأنى عدت إلى لعبة المكان والزمان من جديد ,فالمكان فى عمق القاهرة وقلبها النابض , حيث الشوارع الجانبية الضيقة والبيوت التى يكسوها غبار الزمن , تجاورها الأشجار العتيقة ووجوة مصرية محفورة ومرسومة بالشجن , على الأرصفة يجلسون وتحت حائط البيت القديم تمتلئ القهوة البلدى فى منتصف الظهيرة بالرواد  .

وبمجرد دخولنا من الباب المفتوح إلى الطرقة الضيقة والتى يتراص على جانبيها الكتب والملصقات ,ينتاب المرء شعورا بثقل التاريخ والثراء الفنى والفكرى للمكان , هنا ايضا شكل آخر من اختراق الزمن .

يستقبلنا الأستاذ جورج , جالسا على مكتبه بإبتسامته العريضة ويمد يده الواهنة بالسلام  فيما تظل عينيه الذكيتين ثابتين بنظراتهما النافذتين  الثاقبتين إلى وجهى , حتى شعرت ببعض الأرتباك والخجل .

أنه يتفحص الوجوه , كما يتفحص الجواهرجى المعادن والأحجار الكريمة ويميزها جيدا عن مثيلاتها المزيفة ! او هكذا خيل إلى آن ذاك . وكانت تجلس , على الأريكة المقابلة , زوجته ورفيقه عمره ,ذات الوجه الفرعونى الأصيل , وهى تنظر اليه فى فخرواعتزاز واضح مرحبه بالحضور .

نحن الأن فى حضرة أستاذ الكاريكاتير ومدرسة  الخط الواحد،  والذى يصرح فى أحد أحاديثه ,فيقول :"أعترف أننى فى بداية حياتى الفنية كنت أنشغل كثيرا بالشكل وأنحاز إليه بجدارة ,ربما لأننى كنت غارقا فى حب الفنون التشكيلية فكنت أستغرق فى الرسم وأنسى المضمون . اما اليوم فالمضون هو الأساس بالنسبة لى ."

يمسك الأستاذ القلم ذو السن العريض ويتناول الورقة تلو الأخرى , ليرسم وجوهنا جميعا باسلوبه المميز جدا , الذى يجمع بين الخطوط المتعرجة القوية لفن الكاريكاتير وتعبيرية الفن التشكيلى الذى برع فيه وأصبح من أعلامه و أساتذته الكبار فى مصر والعالم .

ولد جورج عبد المسيح بشاى شنودة ساليدس جرجس  , والشهير بالبهجورى نسبة إلى قرية بهجورة التابعة لمركزنجع حمادى فى محافظة قنا فى صعيد مصر , عام  1932

الفنان ذو الأصول الصعيدية والجينات الفرعونية , التى تتفاعل فيها ألمعية الذكاء الفطرى مع الميل الى السخرية اللاذعة وخفة الظل و الموهبة المتقدة الملحة فى بوتقة واحدة تلهبها الحماسة الوطنية والشغف بالفن فيكون الناتج روائع فنية .مابين الرسم والنحت والكاريكاتير .

بدأ البهجورى بالكاريكاتير وبرع فيه بأسلوب قوى ومميز, والذى ساعد على ازدياد شهرته أكثر , هى  المواقف السياسية التى تبناها والظروف التاريخية التى كان يعمل فيها بالصحافة , حيث كان يؤكد دائما أن فن الكاريكاتير لابد وأن يحرض على موقف كبير لقضية هامة , وطنية او ثورية , كما يجب أن يتكامل عنصر الشكل مع عنصر المضمون . هذا على عكس الفن التشكيلى , فى رأيه ,ليس هدفه تبليغ رسالة معينة , فالرسالة الأهم هى فى البحث التشكيلى الجديد . فكما استطاع الفنان الأسبانى الأشهر بابلو  بيكاسو أن يصور العالم من خلال عيونه هو ووفق رؤيته وشطحاته الفنية , فإن البهجورى العبقرى المصرى أستطاع أن ينقل الحياة الإجتماعية والثقافية على مقاهى وسط البلد وحفلات أم كلثوم بكل العنفوان والشجن والألق بل والفرح الذى يصاحبها , وفق منظوره وأسلوبه الفنى الذى لا يخلو من السخرية والمرح .

كل هذا أستدعيته وانا أقف وراء وأمام هذة الموهبة الفريدة , أراقبه وهو يحاور القلم مثل صديق قديم وأنا أقف من وراءه , وأنظر إليه وهو يرسم وجهى بدقة وحرية فى ذات الوقت وانا أجلس أمامه فى سعادة وفخر .أحيانا ما يتوقف الزمن , لكى نتمكن من الأستمتاع بهذة اللحظات الفريدة من العمر .

غادرت المنزل القديم , وأنا مفعمة بالحماس الفنى و ممتلئة الروح بالمشاعر الجميلة الإيجابية ,التى اهتزت قليلا فيما يتعلق بحال الفن المصرى المعاصر ,بعد زيارتى لعدة مدن أوروبيا ,وملاحظاتى على كيفية الإحتفاء بالفن والفنانين هناك . ومرة أخرى ينقلنى المكان خارج صومعة الفنان إلى الواقع الحالى الذى لا يؤمن بقوة وتأثير الفن فى مصر .

ولكن ما هى الصلة والمغزى من هاتين الزيارتين المتقاربتين لاثنين من الفنانين لايجمع بينهما زمان ولا مكان  ,والتى يشاء القدر ان اكون أنا هى همزة الوصل بينهما !

ولكن كيف ؟ لقد تساءلت لماذا , فأنا لا أؤمن بعشوائية القدر ,وعندى قناعة ما , ان كل حدث يقع لابد له من تفسير ما .

وحاولت فى هذا الإطار او الفكرة ايجاد اوجه تلاقى و عوامل مشتركة بين هاتين القامتين , كل فى عصره , وكل فى مجتمعه والغريبة اننى وجدت اوجه شبه كثيرة فيما بينهما !.

رامبرانت وبهجورى  يجمعهما , عشقهما لرسم الوجوه , وتحديهما للأساليب المتداولة فى عصريهما , وعبقريتهما الفذة فى النفاذ إلى الشخصية , بالإضافة إلى الشهرة التى كانا  تمتعا بها فى حياتهما وبالطبع نبوغهما والقدرة على الابداع والأستاذية , بحيث اصبح لكل منهما اسلوبه و مدرستة الخاصة به .

 

ولكن الذى يفرقهما , فضلا عن الزمن الذى يبلغ حوالى أربعة قرون ,فهو قليل ,الا  إن الإحتفاء بمنزل رمبرانت ووضعه على الخريطة السياحية لهولاندا , وتزويده بكل التقنيات الحديثة مثل الترجمة عن طريق سماعات شخصية , بالعديد من اللغات ,لا يقابله أهتمام يذكر ببيت او مرسم البهجورى الذى تبدل من مرسم كبير إلى شقة صغيرة  كنتيجة لإرتفاع الإيجار , وحتى المتحف الذى أقامه البهجورى لنفسه بقاعة الفن العربى بشارع 26يولو ,فأنه لا يستطيع أدارته او الدعاية الجيده له , كما أسرهو,لى القول فى معرض حديثه  .

 

وعلى الرغم من أن حصوله على العديد من الجوائز والتكريمات العالمية والمحلية و الكتب التى تناولت اعماله والتى بلغ عددها إلى إكثر من 600 كتاب, الا أننى أعد هذا الفنان وأعماله بمثابة تسجيلا تشكيليا لذاكرة وطن . فكما أعادتنى هذة الزيارة إلى جذور و أعماق الشخصية المصرية وجوهر الفن المصرى وأصالته بل وعالميته, فتعادلت درجه أعجابى وأنبهارى بزياراتى المتحفية لاوروبا مع سعادتى و أنبهارى بزيارة منزل مبدع عالمى آخر مثل رامبرانت ولكنه مازال يعيش بيننا .فانها اعادت كفتى الميزان إلى التعادل من جديد   ربما تكون هذة الزيارة المفاجئة  ,مناسبة  , مثل هذة المقالة ,مرتبة من القدر للألتفات إلى هذا المبدع المصرى الكبيرالذى سوف يبلغ عامه التسعين  فى الشهر المقبل والاحتفاء به  كما يستحق ,والمحافظة على بيته ومرسمه ومتحفه والترويج لهم بما يضموا  من كنوز فنية وتاريخية كتراث يعلومن قيمة هذا الوطن الثقافية والحضارية والانسانية ايضا .

انه الوطن الذى عاش من أجله وأبدع من خلال رموزه وثوراته وحروبه وإخفاقاته وأنتصاراته هذا البهجورى العنيد .

 

 

                

 

 

 

 

 

 

 

 

إيمان خطاب  تكتب : من بيت رمبرانت إلى مرسم جورج البهجورى   رحلة من المكان إلى  الزمان والعكس !