رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القمص صموئيل البحيرى ومفاتيح السماء!!

تداول عدد من رواد وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو للقمص صموئيل البحيري، هاجم فيه الكنيسة الإنجيلية والكنيسة الكاثوليكية، وقال فيه من ضمن ما قال: "إن الزواج الإنجيلي زنى، وإن البروتستانتية هرطقة، وإن البروتستانت مش هايروحوا السما"، ووجّه كلامه للإنجيليين قائلا: "ملكمش سما". 
وتعليقي على مقولة إن زواج الإنجيليين زنى سأرجئه لمقالي القادم، أما في هذا المقال فسينصب تعليقي على وهم القمص البحيري امتلاك مفاتيح السماء!! 

هناك الكثيرون من ضيّقى الأفق الذين يتوهمون أن مفاتيح السماء قد منحها الله لهم دون سواهم، ومن ثم فلن يدخلها غيرهم ولن يسمحوا بدخول إلا من هم على شاكلتهم ومن يشابهونهم فى أفكارهم ومعتقداتهم، وهذه النظرة الضيقة تقودهم إلى التعصب والتخندق ورفض الآخر المغاير فى الفكر، واتهامه بالكفر والهرطقة والخروج عن الرأى المستقيم وصحيح الدين والعقيدة.
والتعصب بطبيعته ينفى الاختلاف ويسعى للبحث عن التماثل وإنكار أى شكل من أشكال التنوع والاستقلال، فالتعصب هو اتخاذ موقف متشدد فى الرأى تجاه فكرة يعتبرها المتعصب الأساس والحقيقة المطلقة الوحيدة، فالتعصب أولًا وقبل كل شىء نزعة ذاتية أنانية «نرجسية» كامنة فى كل كائن بشرى، ولكنها تطفو إلى السطح وتبرز إلى الواقع حين يتهيأ الجو الملائم لها، حين تتواجه الذات «الأنا» مع الآخر، وتتصور أنه تتوقف على هذا الصراع مسألة الوجود من عدمه، فالمسألة إذن هى تصور لإيمان راسخ بأن الآخرين هم الجحيم كما قال سارتر. فالتعصب هو تقديس للأنا وإلغاء للآخر، فكل ما تقوله الأنا يدخل فى حكم الصحيح المطلق وكل ما يقوله الآخر يدخل فى حكم الخطأ الفادح، ويقود هذا إلى موت لغة التواصل والحوار، وحين يموت منطق الحوار تنطق الحراب ويعلو صوت البنادق وتحفر الخنادق وتستباح الدماء.

وإنه لمن المؤسف أنه يوجد فى جميع الأديان من يتوهمون ويزعمون أنهم نواب الله على الأرض، ولهم أنياب، وأنهم حراس المعبد ولهم قرون وأنهم أسود العقيدة، وهؤلاء الأشخاص هم فى الأغلب الأعم يتميزون بضيق الأفق لا برحابة الصدر، ويؤمنون بأحادية الرأى لا بتعدده، يتوهمون أنهم اقتنصوا كل الحقيقة المطلقة، وأنهم أصحاب الطريق المستقيم، ومن ثم يعطون لأنفسهم الحق فى وصم مخالفيهم بالاعوجاج وعدم الاستقامة وبالتكفير والهرطقة، ونسى هؤلاء المتعصبون أنه ليس من حق أحد أن يعتبر نفسه وصيًا على فكر أو أخلاق أى أحد، كما أنه ليس من حق أى جماعة أن تتوهم أنها حارسة المعبد أو حامية الإيمان، ومن ثم تُعطى لنفسها الحق فى أن تكفر الآخرين أو تتهمهم بالهرطقة والزندقة والخروج عن صحيح الدين والعقيدة، فليت من يظنون أو يتوهمون أنهم نُواب الله على الأرض، أو حراس المعبد، أو حماة الإيمان، أو أسود وذئاب العقيدة، أن يكفوا عن لعب هذا الدور الذى لن يصنع سوى بطولات كرتونية إلكترونية زائفة.. إن الرأى لا يُواجه إلا بالرأى، والحُجة لا تُقارع إلا بالحُجة، والفكر لا يُرد عليه إلا بالفكر، أما أن يُواجه الفكر والرأى بوصم المخالفين بالتكفير أو التخوين أو الهرطقة، فهذا ما لا يمكن قبوله بأى حال من الأحوال، لأن مصطلحات «التكفير» و«الهرطقة» من مخلفات العصور الوسطى البائدة، وقد عفا عليها الزمن.

إن الأصوليين هم أحوج من يكونون إلى التنوير، لأن التنوير يعنى الجرأة فى إعمال العقل، والتنوير على علاقة تناقض حاد مع الأصوليات بسبب رفضها إعمال العقل فى النص الدينى، مما ترتب عليه رفض الأصوليات للحداثة، لأن الحداثة هى ثمرة التنوير، وحيث إن الحداثة معادلة للثورة العلمية والتكنولوجية التى هى ضمير القرن العشرين، فإن الأصوليات فى هذه الحالة يمكن اعتبارها نتوءًا فى مسار الحضارة الإنسانية، لذا يقول الفيلسوف الدكتور مراد وهبة: إذا تناولنا العلمانية على أنها مسألة معرفية تخص مجال العقل قبل أن تخص أى مجال آخر، فوفقًا لنظرية كوبرنيكوس القائلة بدوران الأرض حول الشمس، فمن ثمّ لم تعد الأرض مركزًا للكون، وبالتالى لم يَعُد الإنسان مركزًا للكون، وإذا لم يكن الإنسان مركزًا للكون، فمن ثم لا يكون من حقه الزعم بأنه قادر على قنص الحقيقة المُطلقة، لأن هذا القنص ليس ممكنًا إلا إذا كان الإنسان فى مركز الكون، ومعنى ذلك أن العقل الإنسانى ليس فى إمكانه التفكير بالمُطلق وفى المُطلق، إنما فى إمكانه التفكير بالنسبى وفى النسبى.

إن الله لا يهتم كثيرًا بالذبائح والقرابين والطقوس والعبادات، ولكنه يهتم بالعلاقة مع الإنسان الآخر، إن شريعة الله هى: أن أحب أخى فى الإنسانية قبل كل فروض الصلاة والصوم والقرابين، فما قيمة الصلوات والأصوام والطقوس وكل مظاهر العبادة إن لم تكن هناك محبة حقيقية للإنسان الآخر؟، فهناك فرق شاسع بين التدين والإيمان الحقيقى، فالتدين كثيرًا ما يركز على المظاهر الخارجية وهى أمور جميلة وهامة، بينما الإيمان الحقيقى هو موقف أخلاقى يقدس القيم ويحترم الإنسان الآخر أيًا كان لونه أو دينه أو مذهبه، فما أسهل التعبد لله ورفع الصلوات والأصوام، ولكن ما أصعب التسامح وقبول الآخر المغاير، إن الله سبحانه يريد أن يعيش البشر أسرة واحدة تربطهم رابطة المحبة، لذا فهو سبحانه لا يقبل عبادة مزيفة من قلب ممتلئ بالكراهية والتطرف والأنانية، إن العبادة الحقيقية التى تسر قلب الله هى التى تمر عبر الإنسان الآخر من خلال محبته وخدمته.
فيا من تتوهمون أنكم تمتلكون مفاتيح ملكوت السموات أنتم واهمون؛ لأن مفاتيحكم علاها صدأ الكراهية والتعصب والحقد والحسد ورفض الآخر، فبينما أنتم تتباحثون فى أمور العقيدة وتفاصيلها ومَن معكم فى نفس الخندق ومَن مغاير لكم، سيدخل الملكوت مَن امتلأت قلوبهم بالمحبة لله ولإخوتهم فى الإنسانية.
سيدخل السماء مَن خلت قلوبهم من المطامع وحب الشهرة والنفوذ والاستحواذ على السلطة، سيدخل مَن ساعدوا الفقير والبائس والمسكين والأعمى والعريان، أما أنتم فمكانكم خارج الباب؛ لأن السماء لا يسكنها المتعصبون!!.