رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل وصايا الله تدعو للعنف والقتل؟.. القمص يوحنا نصيف يجيب

يوحنا نصيف
يوحنا نصيف

أصدر القمص يوحنا نصيف، راعي كنيسة السيدة العذراء مريم للأقباط الأرثوذكس بولاية شيكاغو بامريكا، دراسة عبر حسابه الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، للإجابة عن سؤال هل وصايا الله تدعو للعُنف والقتل؟.

 وقال في دراسته،  تُثار مِن وقت لآخَر بعض التساؤلات عن الحروب التاريخيّة التي ذَكَرَها الكتاب المقدّس، ومن ضمنها بعض الحروب بين شعب إسرائيل وأمم أخرى.. وكيف أنّه كانت هناك أحيانًا أوامر إلهيّة بقتل شعوب وقبائل بأكملها، فكيف نستطيع أن نستوعِب أن يحدث هذا من جهة الله محبّ البشر؟.

وأضاف  راعي كنيسة السيدة العذراء مريم للأقباط الأرثوذكس بولاية شيكاغو، أولاً: الله هو هو أمس واليوم وإلى الأبد، لا يتغيّر مطلقًا.. فهو في العهد القديم كما في العهد الجديد، إله سلام وإله محبّة، وإله رحمة ورأفة.. وهو أيضًا إلهٌ قدُّوس وعادل، فلا يطيق الشرّ، ويتصرّف دائمًا في إطار العدالة،  إذا كان الله نور، وليس فيه ظلمة البتّة، ومن الطبيعي أنّه ليس للنور شركة مع الظلمة، لذلك فإنّ الله لا يمكن أن تكون له شركة أو توافُق مع أيّ درجة أو لون من الشرور.. بل هو كلّي الصلاح والخير، ومصدر كلّ جود وحُبّ وسلام.. ووصاياه جوهرها المحبّة والقداسة والعدالة.

- فهم موضوع الحروب المذكورة في تاريخ بني إسرائيل

وتابع القمص يوحنا نصيف، ثانيًا لكي نفهم موضوع الحروب المذكورة في تاريخ بني إسرائيل، نحتاج أن نأخذ قصّة شعب إسرائيل منذ بدايتها،  عندما دعا الله إبراهيم، وأسكنه في أرض كنعان، كانت معظم الأرض خالية في ذلك الوقت.. فأعطاه الأرض له ولنسله قائلاً: "لنسلك أعطي هذه الأرض"  وكان ذلك حوالي عام 2000 ق.م.
 ثمّ نبّهَهُ قائلاً "اِعلم يقينًا أنّ نسلك سيكون غريبًا في أرضٍ ليست لهم، ويُستَعبَدون لهم، فيذلُّونهم أربع مئة سنة (واضح أنّ المقصود هو أرض مصر)/وفي الجيل الرابع يرجعون إلى ههنا (أرض كنعان)، لأنّ ذنب الأموريين ليس إلى الآن كاملاً، هنا يتّضح أنّ الله لن يطرد الأموريين من الأرض، إلاّ بعد أن يصبر عليهم حتّى يمتلئ كأس شرورهم إلى آخره،  وكأنّ هذا لونٌ من العقاب أو التأديب في ذلك الزمان، أو لنقُل أنّ هذا هو القانون العادل؛ أنّ "مَن يعيش بالبرّ ترحِّب به الأرض، ومَن ينشر الفساد في مكان تطرده أرضُ ذلك المكان".

  وتابع في دراسته، قد أكّد الله على هذا القانون أو النظام بعد ذلك عِدّة مرّات، ثالثًا:   نفهم الآن أنّ عمليّة طرْد سكّان أرض كنعان ليسكن فيها شعب إسرائيل كانت في إطار "العدالة".. والعدالة دائمًا يُطبَّقها الله على الجميع بدون استثناء، وأكبر دليل على ذلك أنّه عندما أخطأ شعب إسرائيل وانغمسوا في الشرور طُرِدوا هم أيضًا وشُرِّدوا.

- العقوبة دائمًا تتناسب مع حجم الخطأ


 كما أنّ العقوبة بالنسبة لهم كانت دائمًا تتناسب مع حجم أخطائهم، وهذا يتماشى تمامًا مع روح العدالة.. حتى أنّه عندما زادت خطاياهم جدًّا، جرى تأديبهم عن طريق طردهم من أرض إسرائيل، وسَبيهم بواسطة المملكة الأشوريّة في القرن الثامن قبل الميلاد.. ثم قضى الله أيضًا على الباقين في مملكة يهوذا، عندما تمادوا في النجاسات، بالسبي إلى أرض بابل في القرن السادس قبل الميلاد. وهكذا تبعثر الشعب اليهودي في كافّة أقطار الإمبراطوريّة البابليّة، ثمّ الفارسيّة واليونانيّة والرومانيّة من بعدها،  وبعد أن تاب البعض، عاد منهم قِلّة إلى أرضهم على عِدّة أفواج.. ولكنّهم للأسف الشديد، انتكسوا وأخطأوا خطيئتهم الكبرى؛ برفض السيّد المسيح وصَلبِه.. وهنا كانت العقوبة الكبرى عليهم في عام 70 ميلاديّة، بالطرد والتشريد لمدّة تقترب من تسعة عشر قرنًا من الزمان، هكذا نرى أنّ أحكام الله دائمًا تكون في إطار العدالة على الجميع، دون أيّ مُحاباة.
 

- العدالة الإلهيّة ممزوجة بالرحمة


 واستكمل، رابعًا  كانت العدالة الإلهيّة ممزوجة بالرحمة أيضًا، وإعطاء الكثير من الفُرَص للتوبة والإصلاح.. كما أنّ الله لم يكُن يُهلك أبدًا البار مع الأثيم، وكثيرًا ما كان يقبل الشفاعة عن الخُطاة ويغفر لهم.. وهناك الكثير من الأحداث التي تشهد على هذا، في حياة موسى وداود وآخاب ويونان، والكثيرين غيرهم..
خامسًا:   الله قدوس، ولا يطيق الخطيّة.. ولا يمكن أن تأتي لحظة سيتصالح فيها مع النجاسة والشرّ.. وهو بالتالي لا يستطيع أبدًا أن يَدخُل في علاقة طيّبة مع الأشرار، لذلك كان يوصي شعبه بعدم مخالطة الأشرار، والقضاء على كلّ مظاهر الشرّ والنجاسة في كلّ مكان يدخلونه لئلا تنتقِل إليهم العَدوَى، نرى ذلك في حديثه إلى موسى ويشوع وشعب إسرائيل مرّات كثيرة..  لقد كان الله يغرس في شعبه مفهوم النقاوة والقداسة، بالتخلُّص من الخطيّة وكلّ ملحقاتها، وكلّ ما يُذَكِّرنا بها.

- استئصال الخطيّة يتحقّق باستئصال الخُطاة بكافّة أنواعهم

 وقال،  مع ملاحظة أنّ مستوى الشعب في العهد القديم كان بدائيًّا في الإيمان؛ فكان الله يتعامل معهم على الصعيد المادي والحِسِّي في المكافأة والعقوبة، ولذلك كان استئصال الخطيّة يتحقّق باستئصال الخُطاة بكافّة أنواعهم، أمّا في العهد الجديد فقد ارتقى الإنسان بنعمة الروح القدس، وصار التعامُل على صعيدٍ روحِيّ في المكافأة والعقوبة أيضًا..!
 إذن، في فهمنا لموضوع الحروب التي اجتاز فيها شعب الله في العهد القديم، نحن محصورون بين التقديس والنقاوة من جانب، وتحقيق العدالة من الجانب الآخَر..!
سادسًا: عندما ننظر إلى وصايا الله إلى شعب إسرائيل، نجد أنّها كانت فائضة بالرحمة للجميع، وبالأكثر للفقير والغريب والضيف. كما أنّ الوصايا مملوءة عدلاً حتّى للأعداء والمُبغِضين..!
 وأضاف، سابعا عندما استقرّت مملكة إسرائيل في أواخر عهد داود، وطوال حُكم ابنه سليمان، ثمّ مَن جاؤا بعدهم، كانت المملكةً مُسالِمة تمامًا.. فلم تكُن عُدوانيّة، وليس لها أيّة أطماع تَوَسُّعيّة.. بل نقرأ عن علاقات طيّبة بين سليمان وملوك الأمم المجاورة، وأيضًا البعيدة مثل مَلِكَة سَبَأ،  هذا يؤكِّد أنّ الحروب التي حدثت أثناء توطين الشعب في أرض كنعان، كانت مرتبطة ومحصورة فقط بهذا الظرف التاريخي للحفاظ على نقاوة الشعب الذي يسكن الله في وسطه، ولا يمكن أن تنسحب على أيّ وقت آخَر.. فهي لم تكُن أبدًا وصايا إلهيّة مستديمة للحضّ على التعامُل العنيف مع أيّ أحد.

- وصيّة "عين بعين وسِنّ بسنّ"

وأخيرًا: بخصوص وصيّة "عين بعين وسِنّ بسنّ.." الموجودة في العهد القديم، والتي قد يُظَنّ أنّ فيها روح انتقام، ولا تتوافق مع المحبّة، فهي في الحقيقة أيضًا تدخُل في إطار العدالة، ولا تتعارض مع المحبّة.. إذ أنها موجَّهة للقاضي الذي يَحكُم بين الناس، وليس لكي ينتقم الناس لأنفسهم.. وهي كما جاءت بالنَّص: "إذا حصلت أذيّة تُعطَى نَفْسًا بنفس، وعينًا بعين، وسِنًّا بسِنّ، ويدًا بيد ورِجْلاً برِجل. وكَيًّا بكيّ وجرحًا بجرح ورَضًّا بِرَضّ" .. فهذه الوصيّة هي بمثابة القاعدة العامّة للأحكام القضائيّة.. إذ يتمّ استقاء روح العدالة منها لتُستَخدَم في كلّ العصور، حتّى وإن حدث الكثير من التطورات الحديثة الآن في وسائل تطبيق العدالة وقوانين العقوبات..!