رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القوى النبيل

على بن أبى طالب إنسان أعدته الأقدار وصنعته التجربة ليكون نموذجًا للفارس وعنوانًا للفروسية بالثنائية التى تتحلق حولها «القوة والشهامة». أقرب صورة لعلى بن أبى طالب- مع الفارق فى التشبيه- يمكن أن تجدها فى شخصية «الفتوة العادل» التى رسمها نجيب محفوظ لعاشور الناجى، وشمس الدين وسليمان الناجى، إنها الصورة الشعبية الساكنة فى العقل الجمعى المسلم عن على، رضى الله عنه، حبيب البسطاء، وخصوصًا من المصريين، وهى صورة لا تختلف كثيرًا عن الصورة الإنسانية التى يمكن أن تستشفها وأنت تتبع شخصية الرجل فى كتب التراث.

على بن أبى طالب كان نموذجًا للقوة النبيلة، فهو يتمتع ببناء جسدى قوى ميال إلى القصر، صدر عريض وساعدان من فولاذ، أصلع لا يظهر الشعر إلا فى مؤخرة رأسه، عظيم اللحية، إذا مشى دب على الأرض دبيب الأسود، وإذا سارع إلى الحرب جرى إليها بعزم المقتدر، لا يوظف قوته إلا فى مواجهة الظالمين، وللدفاع عن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يضجون من قهر الآخرين لهم، ويجدون فى ساعده القوى مظلة حماية. 

استمد «على» أخلاقه النبيلة من زهده الصادق فى الحياة، لم يفهم الكثيرون هذا الجانب فى التركيبة النفسية لعلى بن أبى طالب، حين وصفوه بعدم الجدية فى المنافسة على الخلافة بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، وفى المراحل التالية، مثل عمه العباس بن عبدالمطلب، وولده الحسين بن على، ولم يفهموا أن تركيبته النفسية الميالة إلى الزهد، والتى تكتفى من الحياة بأقل القليل، كانت تدفعه إلى التردد والإحجام عن المنافسة. لم يبادر إلى قبول الأمر إلا فى اللحظة التى شعر فيها بأن عقد المسلمين يوشك على الانفراط، فتحرك بشهامة، من أجل حماية من تحلقوا حوله من عوام المسلمين المطالبين إياه بحمايتهم من خطر الفوضى التى توشك أن تضرب بأطنابها فى أنحاء الأمة.

قبيل وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، التف حوله الأنصار الذين كانوا يعلمون أن صوت المهاجرين أعلى، وأن انتماءهم القرشى يمنحهم اليد الطولى فى الحكم بعد وفاة النبى، لاذوا بعلى بن أبى طالب، وشكلوا ظهيرًا شعبيًا له، ولم يجد بنو هاشم غضاضة فى ذلك، فقد كانوا ميالين إلى جعل الأمر إلى على، لكن الرجل الزاهد لم يرد أن ينافس الشيخين أبابكر وعمر، وهو يعلم فضلهما، استجاب «على» فقط فى اللحظة التى علم فيها أن الأمة تحتاج إلى أن يسخّر قوته الجسدية والعلمية «وهو من أفقه صحابة النبى» والإيمانية فى خدمة مستضعفيها.

عاش على بن أبى طالب حياة إنسان عادى من أناسى زمانه، تزوج كما يتزوجون، وأنجب كما ينجبون، وربما كان «على» أكثر الصحابة ميلًا إلى الأنس الأسرى، وأشدهم حبًا للمة العائلة، لذلك نجده- خلافًا للشيخين- تزوج كثيرًا وأنجب كثيرًا. ويبلغ إجمالى عدد أولاده- كما جاء فى كتاب صفة الصفوة- ٣٣، منهم ١٤ ذكرًا، و١٩ أنثى، وقد استشهد العديد من ذكور العائلة العلوية مع الحسين فى معركة كربلاء. مسلكه فى الحياة تشابه مع مسلك النبى، صلى الله عليه وسلم، فكما لم يتزوج النبى على السيدة خديجة بنت خويلد طيلة حياتها، لم يتزوج «على» على السيدة فاطمة بنت محمد حتى وفاتها، ثم انطلق بعد ذلك فى الزواج والإنجاب بحثًا عن الأنس العائلى، وعصمة لإيمانه. 

نوع آخر من الحنين- غير الحنين العائلى- تجده ظاهرًا فى التركيبة الإنسانية لعلى بن أبى طالب، هو الحنين الإيمانى، بالفرار من الحياة إلى الله عز وجل، لم يكن يحب الانخراط فى الحياة كثيرًا، إلا لغرض إيمانى يخدم الإسلام، وفيما عدا ذلك كان يؤثر الإيواء إلى كهف نفسه واللواذ بربه، وترديد أناشيد الروح. اضطرت الظروف «عليًا» إلى الانخراط العميق فى الحياة بعد أن ولى أمر المسلمين، واجه مشكلات لم يواجهها خليفة من قبله، وانشقاقات غير مسبوقة فى الصف المسلم، عالجها باللين والحكمة مرات وبالحرب والقتال مرات، وليس ثمة من شك أن الدم المهدر ممن يقفون فى صفه أو ضده من المسلمين كان يوجع قلبه، ويدفعه مرغمًا إلى الحنين إلى كهفه وأناشيد روحه. يشهد على ذلك اللحظات الأخيرة فى حياة «على» قبل اغتياله على يد عبدالرحمن بن ملجم. فقد كان أنصاره يعلمون أنه مستهدف من الخوارج ومن أنصار معاوية فى الشام، فرتبوا له حراسة بالمناوبة، بحيث يقوم ١٠ من الرجال بحراسته كل ليلة، وعندما رآهم «على» صرفهم وقال لهم: لا يكون فى الأرض شىء حتى يقضى فى السماء. فلما كانت الليلة التى قتل فى صبيحتها قلق تلك الليلة وجمع أهله ليأنس بهم كعادته، ثم استعد للخروج إلى المسجد، لحظتها صرخ الأوز فى وجهه، فبادرت النسوة إلى إسكاته لأنهن يعلمن أنه يزعج «عليًا»، فقال: ذروهن فإنهن نوائح. كان شبح النهاية شاخصًا أمام عينيه.

كإنسان ارتبط بعلى بن أبى طالب العديد من الأساطير التى ظهرت فى عصره، والتى اخترعتها الأجيال المتعاقبة من بسطاء المسلمين، وكلها تدور حول موضوع واحد، يتمثل فى القوة النبيلة التى امتلكها الخليفة الرابع من الخلفاء الراشدين، القوة التى كان يوظفها فى رفع الظلم عن المظلوم، وحماية المستضعفين من حرافيش المسلمين. وكأنى بالأديب العالمى نجيب محفوظ وهو يكتب روايته الشهيرة «الحرافيش» ويصف فيها عاشور الناجى «الفتوة العادل» وقد استدعى الكثير من سمات التركيبة الإنسانية لشخصية على بن أبى طالب وهو ينسج ملامح بطل ملحمته الشهيرة.