رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بعد صدور طبعة جديدة من "المقدّمة في فلسفة الدين":

الفيلسوف اللبناني أديب صعب: أرسيت أُسساً للدفاع عن الدين في ذاته

الفيلسوف اللبناني
الفيلسوف اللبناني أديب صعب

صدرت حديثاً طبعة جديدة من كتاب "المقدمة في فلسفة الدين" للفيلسوف اللبناني أديب صعب، عن دار النهار في بيروت، وهي التي نشرت الطبعات السابقة للكتاب ومعظم أعمال المؤلف. وهذه الطبعة هي الكتاب الأول الذي تصدره الدار الشهيرة في انطلاقتها الجديدة، بعد توقف سبع سنوات. 

من كلام الناشر على الغلاف: "بين صدور الطبعة الأُولى من ‘المقدمة في فلسفة الدين’ عام 1994 واليوم، شهدت المكتبة العربية عدداً قليلاً من الكتب في هذا الحقل المستجدّ على ثقافتنا. لكن ما يذهب أبعد من أوّلية الكتاب الزمنية أنه عمل تأسيسي أصيل، يقدّم فلسفة دين عربية. يأتي هذا الكتاب ضمن مجموعة كتب للمؤلف في الموضوع، صدرت عن دار النهار: ‘الدين والمجتمع’، 1983؛ ‘الأديان الحيّة’، 1993؛ ‘المقدّمة في فلسفة الدين’، 1994؛ ‘وحدة في التنوّع’، 2003؛ ‘دراسات نقدية في فلسفة الدين’، 2015. من كتبه في النقد الثقافي ‘هموم حضارية’. والمؤلف شاعر طليعي نشر عدداً من المجموعات، آخرها ‘حيث ينبع الكلام’ (2019). وهو أُستاذ جامعي للفلسفة ورئيس تحرير مجلة ‘الأزمنة’ الثقافية طوال فترة صدورها".

هنا حوار أجرته "الدستور" مع الفيلسوف اللبناني أديب صعب حول فلسفة الدين: 

  • إلى أي نظام فكري أو أكاديمي تنتمي فلسفة الدين: الفلسفة أم الدين؟ أم هي نظام مشترك بين الاثنين؟ 

تنتمي فلسفة الدين، بالتأكيد، إلى الفلسفة. وهذا يصح على فلسفة الأخلاق وفلسفة السياسة وفلسفة الفن وفلسفة العلم. فلسفة العلم لا تضاعِف عمل العلم، ولا تقدِّم فلسفةُ الفن أعمالاً فنية، وليست فلسفة الشعر شعراً. فلسفة الشعر، مثلاً، تطرح أسئلة من هذا النوع: ما هو الشعر؟ لماذا الشعر؟ هل يضيف الشعر إلى ما نعرفه عن العالم والانسان؟ ما أنواع اللغة الشعرية، وكيف تختلف عن لغة الحياة اليومية ولغة العلم مثلاً؟ إذا استطاع كثيرون العيش من يوم إلى يوم، بل حياةً كاملة، بدون قراءة الشعر، فما الذي يبرر وجود الشعر؟ النوع نفسه من الأسئلة تطرحه فلسفة العلم وفلسفة الدين وفلسفة السياسة وفلسفة أي نشاط آخر، من غير أن تضاعِف عمل النشاط الذي تتناوله. 

بالنسبة إلى الدين، لا تقدِّم الفلسفة عقائد دينية، بل تحاول تحليل ما يعتنقه الناس من عقائد في ضوء العقل النقدي، علماً أن النقد لا يعني الرفض كما هو شائع في ثقافتنا. والأحرى أن النقد والتفكير النقدي والعقل النقدي تشير كلها إلى تحليل المفاهيم في ضوء العقل، سواءٌ أكانت هذه المفاهيم رافضة أم قابلة، مبرِّرة أم غير مبرِّرة. وما هو أعمق من القبول والرفض هو الدفاع الحسَن عما نقبله أو نرفضه. الفلسفة، في أحد معانيها، هي حسْن الدفاع. 

  • أنتَ تقدمتَ خطوة إضافية في فلسفتك إذ دافعتَ عن الإيمان الديني. 

صحيح أني فعلتُ هذا، لكني بقيتُ ضمن نطاق الفلسفة. فأنا لم أُقدّم دفاعاً عن عقائد دين محدد كما يفعل اللاهوتي أو عالِم الكلام. لكني أرسيتُ أُسساً للدفاع عن الدين في ذاته، لا عن مقولات هذا الدين أو ذاك. وجعلتُ من الفلسفة أساساً يُبنى عليه اللاهوت أو علم الكلام بقولي إنه "لو لم يكن الدين بمعناه العام مبرَّراً، فلا يمكن تبرير هذا الدين أو ذاك".وركزتُ على أن يكون العقل أساس قبول أي رسالة دينية على أنها وحي إلهي بناءً على انسجام هذه الرسالة، في جزئيها المتعلقَين بالخَلق والأخلاق، مع بديهة الانسان أو فطرته أو منطقه السليم، ومع تطلعاته السامية نحو المثُل العليا من محبة وسلام واحترام لكرامة الانسان. فالرسالة الدينية تُفصِح عن إلهيّتها بمقدار جمالها وجلالها وكمالها. 

  • صدرت حديثاً طبعة جديدة من كتابك "المقدمة في فلسفة الدين" الذي وصفه الناشر (دار النهار في بيروت) بـ "المرجع الفلسفي القيّم". هل لك أن تصف هذا الكتاب؟ 

كانت الحاجة كبيرة جداً إلى إعادة طبع "المقدمة في فلسفة الدين". فالكتاب نفد قبل مدة غير قصيرة. وهو مطلوب على نطاق واسع جداً من الأوساط الجامعية والثقافية عموماً، علماً أن النسخ الوحيدة المتاحة منه موجودة في المكتبات الجامعية. وكنتُ أعمل على إعداد أعمالي الكاملة، الفلسفية والشعرية، للنشر، حين طلبت مني دار النهار -  وهي ناشرة معظم كتبي - إعادة طبع "المقدمة". هذه الدار، التي أسسها الراحل الكبير المفكر السياسي والأكاديمي اللبناني غسان تويني، وقد أدار جريدة النهار ما يزيد على العقود الستة، نشرت كتباً مهمة جداً في مختلف حقول الانسانيات. وبعد احتجابها نحو سبع سنوات، عادت إلى العمل أخيراً متحديةً الظروف الصعبة على الصعد اللبنانية والعربية والعالمية جميعاً، إيماناً من إدارتها الجديدة بأن الكتاب الورقي المطبوع لا يمكن أن يخلي مكانه لأي شكل آخر من النشر. 

إذ أُعبّر، بادئ الأمر، عن سروري لصدور طبعة جديدة من "المقدمة في فلسفة الدين"، أود التذكير بأن هذا الكتاب هو الثالث لي بين خمسة كتب متكاملة في فلسفة الدين. ويمكن اعتباره الكتاب الرئيسي في هذه المجموعة لجهة طرحه ومعالجته المسائل الأساسية في موضوع كان جديداً على الفكر العربي المعاصر.  ومما يجعل كتاباً ما عملاً رئيسياً أنه (أ) يُرسي منهج الكاتب؛ (ب) يحوي تحرياتٍ وتحليلات مستفيضة في المواضيع التي يعالجها؛ (ج) يحدّد خطاب الكاتب. 

هذا الوصف ينطبق، بمعنى، على كتبي الخمسة في فلسفة الدين. فالكتاب الأول، "الدين والمجتمع" (1983)، أرسى منهجي في مقاربة الموضوع، إذ قدّم فلسفة الدين من ضمن الدراسات الدينية القائمة على المنهج الوصفي أو الفينومينولوجي المختلف عن منهج المقارنة القيمية المبنيّة على المفاضلة والمعتمَدة في اللاهوت أو علم الكلام. ثم جاء الكتاب الثاني، "الأديان الحية" (1993)، الذي كتبتُه لا كعمل مستقل، بل بمثابة جزء تمهيدي أوّل من "المقدمة"، ليطبّق المنهج الفينومينولوجي على دراسة الأديان، وليوضح أن فلسفة الدين لا تختص بدين معين، بل تنطلق من العناصر المشتركة بين الأديان.

وكان الكتاب الثالث في المجموعة هذا الكتاب الذي صدرت منه طبعة جديدة، وهو "المقدمة في فلسفة الدين" (1994). ويتميز بأنه أثار المسائل الأساسية في الموضوع، وهي: وجود الله، التجربة الدينية، الخوارق والمعجزات، مسألة الشر، الدين والأخلاق، الموت وما وراءه. تلاه كتابان - "وحدة في التنوُّع" (2003) و"دراسات نقدية في فلسفة الدين" (2015) -  يعالجان، بالمنهج الفينومينولوجي عينه، مزيداً من مسائل فلسفة الدين، مثل: الأديان الأُخرى والحوار، الدين والعلم، الدين والدولة، الخطاب الإلهي، لغة الدين. وآمل أن يلي هذه الخمسة كتاب سادس حول الدين والشعر، علماً أن الدين والفن من المواضيع المهمة في فلسفة الدين. 

لكن مهما تكن "المسائل الأُخرى" في فلسفة الدين، فالمسائل الأساسية في الموضوع هي تلك التي عالجتُها في كتابي "المقدمة في فلسفة الدين". يطرح الكتاب تعريفَين للموضوع: واحداً تاريخياً، يقول بأننا نستقي فلسفة الدين مما قاله الفلاسفة عن الدين خلال التاريخ، وآخر منهجياً، يقول بأن فلسفة الدين معنية بتحديد نطاق الدين ومنطقه، كما أن الفلسفة كلها معنية برسم النطاق والمنطق. يتناول الفصلان الأولان من الكتاب الناحية التاريخية، وهي ناحية كانت مهمَلة في كتب فلسفة الدين العالمية قبل صدور كتابي. هكذا يعالج الفصل الأول تاريخ الأديان للخروج بعناصر مشتركة تتيح لنا أن نصنّف نظاماً معيناً في عداد الدين، ويستعرض الفصل الثاني تاريخ الفلسفة لجهة معالجة الفلاسفة للمفاهيم الدينية. أما الفصول المنهجية اللاحقة فتتناول المسائل الرئيسية في فلسفة الدين، وهي: وجود الله، مفهوم الإعجاز، التجربة الدينية، مسألة الشر، الدين والأخلاق، الموت وما وراءه. 

  • المسائل التي تفضلتَ بذكرها هي المسائل التي نقع عليها عموماً في كتب فلسفة الدين. فما وجه الجدّة في معالجتك؟ 

طبيعي أن تتشابه الموضوعات التي يطرحها ويعالجها نظام فكري معين مثل نظرية المعرفة والفلسفة الخُلقية وفلسفة السياسة وفلسفة الفن وفلسفة الدين. إلا أن كتابي ليس من نوع المداخل أو المقدمات الموجزة إلى موضوعه. ولم يكن عبثاً إطلاق اسم "المقدمة" عليه: فهو ليس "مدخلاً" إلى فلسفة الدين أو "مقدمة" في فلسفة الدين، بل هو "المقدمة في فلسفة الدين". فالكتاب لا يقتصر على استعراض آراء الفلاسفة في المسائل التي يعالجها، بل يذهب أبعد كثيراً إلى مناقشة هذه الآراء وطرح بدائل تعبّر عن موقفي الفكري، الميتافيزيقي والمعرفي أوّلاً، وتطبيقه على المسائل المعالَجة. الكتاب، إذاً، يقدّم طرحاً مزدوجاً، يغدو معه، في آنٍ معاً، "فلسفة الدين" و"فلسفة دين": العبارة الأُولى تعني أن الكتاب يخدم كمرجع توثيقي في موضوعه، فيما تعني الثانية أنه يطرح فلسفة دين خاصة بالمؤلف. إلا أن جدّة الكتاب لا تقتصر على كونه فلسفة دين خاصة بي، بل تنطبق على المعنى الأول، المرجعي، أيضاً. فالمختارات من الفلاسفة لم أنقلها عن الكتب السابقة في الموضوع كما نجد في كثير من الكتب الأكاديمية، بل هي مختاراتي الشخصية من المصادر الفلسفية الأصلية، وكذلك نقل ما هو بغير العربية من هذه المختارات إلى العربية. وهذا ينطبق على تصميم كل فصل وتفاصيل أُخرى.

  • عالجتَ في كتابيك اللاحقَين مسائل أُخرى كما ذكرتَ. لكن ألا تظن أن هناك مزيداً من المسائل في فلسفة الدين تبقى مفتوحة على المعالجة؟ اليوم، مثلاً، يكثر الكلام على مواضيع مثل العنف و"الجندر". 

ظاهرة العنف، مثلاً، عالجتُها فلسفياً. لكن يبقى مجال واسع لمعالجتها من وجهة العلوم السلوكية، وأهمها علم النفس وعلم الاجتماع. وأتمنى أن يشقّ هذان العلمان - وهما في صلب الدراسات الدينية، لكنْ خارج فلسفة الدين - طريقاً أرحب إلى الاهتمامات الأكاديمية العربية. ثم إنه لا يمكن أن يعالج كاتب واحد كل المسائل المتعلقة بموضوعه. دائماً تبقى "مسائل أُخرى" في كل موضوع. من هنا قلت في مقدمة كتابي "دراسات نقدية في فلسفة الدين"، وهو الخامس في الموضوع: "مع هذا كله، لا تَستَنفِد المسائلُ التي تمّت معالجتها في الكتب الخمسة كل ما يمكن أن يسمّى مسائل في فلسفة الدين. وقد أتناول مسائل أُخرى في كتابات لاحقة، أو أُعيد صياغة بعض المسائل التي عالجتُها حتى الآن. لكن لسواي أن يفعل هذا أيضاً". إلا أني آمل أن أنشر، في وقت قريب، كتاباً سادساً في فلسفة الدين حول الدين والشعر. وهذا من المواضيع الأساسية في فلسفة الدين.

  • لغتك بسيطة. وهذا لا نلاحظه في لغة الفلسفة والانسانيات عموماً. هل تنتقص هذه البساطة من عمق الفلسفة؟

مما يؤسف له كثيراً تعقيد اللغة الذي نلاحظه في مختلف حقول الانسانيات، ومنها الفلسفة. طالما واجهتُ، بحكم عملي أُستاذاً جامعياً للفلسفة، سؤالاً متكرراً من بعض طلابي. فبعد قطعنا شوطاً في الفلسفة القديمة، مثلاً، يأتيني طالب بهذا السؤال: "متى نبدأ الفلسفة؟". فأقول له: "بعد تقديمنا الفلسفة في معانيها وأهدافها وعصورها وأعلامها، انتقلنا إلى الفلاسفة الذين سبقوا سقراط، ثم إلى السوفسطائيين وسقراط وأفلاطون. وها نحن مع أرسطو. فكيف تسألني متى نبدأ الفلسفة؟ أوَليس ما فعلناه حتى الآن، وما سنفعله، من صلب الفلسفة؟". وهنا تأتي الملاحظة الصاعقة: "ما فعلناه حتى الآن كان مفهوماً وبسيطاً. لكن تعلّمنا في المدرسة الثانوية قبل الجامعة أن الفلسفة موضوع معقَّد في مفاهيمه ولغته". 

هذا التعقيد يميز الكثير من الكتابة الفلسفية اليوم، خصوصاً العربية. لكننا نجد في فكرنا العربي المعاصر مَن كتب الفلسفة بلغة بليغة وواضحة. وأكتفي هنا بذكر الفيلسوف الراحل زكي نجيب محمود، الذي أجريتُ معه حواراً شائقاً حول الفلسفة لمجلة "الأزمنة". وهي مجلة فكرية ثقافية صدرت في النصف الثاني من الثمانينات وكنتُ رئيس تحريرها. وكان ممثل المجلة في مصر - وهو أُستاذ الكلاسيكيات أحمد عتمان، الذي فقدناه في ريعانه قبل سنوات - أجرى الأحاديث الأربعة الأُولى مع الدكتور محمود، ثم نشرها في كتاب بعد صدورها في "الأزمنة". 

لكني أُبادر إلى القول بأن الوضوح، وإن كان شرطاً ضرورياً للفكر والكتابة في حقول الانسانيات المختلفة كما في التعليم، ليس شرطاً كافياً. وهو لا يكتمل إلا بالبحث الرصين والفكر النقدي العميق. والمطلوب هو الفكر الجدّي العميق في أُسلوب واضح. وفي حوار مع مجلة "الأزمنة" حول السلفية والعلمانية، قال المفكر حسن حنفي، الذي فقدناه أخيراً، إن الفكر السلفي يعرف كيف يقول لكنه لا يعرف ماذا يقول، في حين أن الفكر العلماني يعرف ماذا يقول من غير أن يعرف كيف يقول. والمطلوب فكر يلبّي الشرطين معاً. 

  • للفلاسفة تصورات عن الدين ومسائله جعلت بعضهم يوحي أن الدين "فلسفة العامة" والفلسفة "دين الخاصة". ما موقفك من هذه المقولة؟ 

أرفض هذه المقولة رفضاً قاطعاً. وقد جاء في كتابي "المقدمة في فلسفة الدين" أن الفلسفة ليست ديناً لتأخذ مكان الدين، كما أن الدين ليس فلسفة. الفلسفة نشاط نظري، في حين أن الدين نشاط عملي. وآراء الناس، بمن فيهم الفلاسفة، حول الدين ومسائله تنتمي إلى الفكر لا إلى الدين. فالدين طقوس وصلاة وعبادة وموقف عملي من الحياة، لا محض آراء نظرية وتحليل مفاهيم. لكن يبقى، كما جاء في حوارنا هذا، أن طرح الأسئلة والمسائل الفلسفية المتعلقة بالدين وتحليلها العميق أمر ضروري لكي يمارس المرء دينه على وجه أفضل.