رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر تفتح الباب لـ«آل البيت»

أحب أهل البيت المصريين، وأحب المصريون أهل بيت النبى، صلى الله عليه وسلم، وظلت مناصرتهم جزءًا من وجدان أهالى المحروسة، لكنهم لم يتشيعوا، كما فعل أهل العراق بعد مأساة «الحسين» فى كربلاء، فظلت دولتهم تابعة للخلافة السنية الأموية ثم العباسية، حتى حل زمان الانخلاع منها والتحول الرسمى إلى المذهب الشيعى، وتم ذلك على أيدى الفاطميين.

تأسست الدولة الفاطمية فى مصر بعد سقوط الدولة الإخشيدية «٣٥٨ هـ». وقد دخل المعز لدين الله الفاطمى مصر بعد أن نجح قائده «جوهر الصقلى» فى فتحها عقب عدة محاولات سابقة باءت بالفشل، والقائد «جوهر» هو بانى مدينة القاهرة التى أصبحت مركز الخلافة الفاطمية. وبدخول الفاطميين بدأ مذهب التشيّع فى الظهور فى مصر، وأُذِّن فى المساجد «حى على خير العمل»، وعلت أصوات الفاطميين لتجهر بأفضلية على بن أبى طالب، والصلاة عليه وعلى ولديه الحسن والحسين وزوجته فاطمة، رضى الله عنهم. 

حاول المعز أن يظهر الصلاح والعدل بين المصريين، وأكد فى أول خطبة خطبها فيهم أنه جاء لإقامة العدل ورفع الظلم عنهم. ولعب القائد العسكرى «جوهر الصقلى» دورًا مركزيًا فى تأسيس الخلافة الفاطمية، وهو بانى الجامع الأزهر الذى أنشئ كمدرسة لتعليم الفقه الشيعى. وبعد أن دانت للمعز الأمور فى مصر، سعى إلى استخلاص دمشق من «القرامطة» ونجح فى ذلك وأمَّر عليهم «ظالم بن موهوب». 

كان «المعز» والفاطميون يعتمدون على الدعاية بشكل كبير، وقد سبق دخول جوهر الصقلى إلى القاهرة وفود العديد من الدعاة الفاطميين الذى اجتهدوا فى الدعوة السرية للمذهب الشيعى بين المصريين، وقد وجدوا استجابة لدى البعض ورفضًا لدى آخرين، وعندما دخل الفاطميون مصر رسميًا بدأوا حملة دعاية أكبر من داخل المساجد الكبرى لنشر التشيّع، وبدأوا يؤثرون الفقهاء والقضاة الشيعة بالمناصب والمكاسب والمغانم، وأخذوا فى الاحتفال بأعيادهم وشعائرهم المخالفة لأهل السنة، مثل الاحتفال بذكرى استشهاد الحسين فى كربلاء والاحتفال بعيد الغدير. وعندما بدأ المصريون «السنة» مقاومة انتشار التشيّع الفاطمى فى أوساطهم من خلال الاحتفال ببعض الأحداث السنية، مثل ذكرى دخول النبى، صلى الله وعليه وسلم، وأبى بكر إلى غار «ثور» أثناء الهجرة، سكت عنهم الفاطميون حتى لا يثيروا غضبهم.

ومثلما استخدم المعز الدعاية السياسية بادر العباسيون إلى توظيف الدعاية المضادة لتقويض أركان ملكه، من خلال التأكيد أن الفاطميين لا ينتمون إلى البيت العلوى، وأنهم مجرد مجموعة من المغامرين الأدعياء، وهو أمر اختلف عليه تاريخيًا، فهناك من سانده وهناك من دحضه. ويسوق البعض قصة طريفة تحكى الكيفية التى رد بها «المعز» على موضوع حسبه ونسبه، تقول إنه خرج على المصريين بالسيف فى يد والذهب فى أخرى، وردد عبارته المشهورة وهو يشير إليهما «هذا حسبى وهذا نسبى». وهى العبارة التى جرت فيما بعد مجرى المثل: «سيف المعز وذهبه»!، بسبب دقة تعبيرها عن النظرية التى يفضل الحكام التعامل بها مع الشعوب بالترهيب «السيف» والترغيب «الذهب»، وهى النظرية التى تلخصها سياسة «العصا والجزرة».

وقد تراجع هذا المسلك المتوازن فى التعامل مع المصريين كثيرًا بعد وفاة «المعز» وتولى ابنه العزيز بالله الخلافة، فقد كان أكثر تعصبًا لمذهبه وفرض على القضاة إصدار أحكامهم طبقًا للمذهب الشيعى «الإسماعيلى»، وأصبح مطلوبًا من الموظفين الاسترشاد بأحكام هذا المذهب، الأمر الذى دفع بعضهم إلى التشيّع، وفى المقابل من هؤلاء حرص آخرون على التمسك بمذهبهم السنى، ساعدهم على ذلك تسامح بعض الخلفاء الفاطميين، الذين لم يكن من بينهم بحال «العزيز بالله» الذى اتجه إلى تهميش المصريين السنة بصورة كبيرة،

بعد وفاة العزيز بالله تولى نجله الحاكم بأمر الله الحكم سنة «٣٨٦ هـ» حكم مصر، وكان عمره إذ ذاك إحدى عشرة سنة وستة أشهر وقام بتدبير المملكة «برجوان» الخادم وأمين الدولة «الحسن بن عمارة،» فلما تمكن الحاكم من السلطة قتلهما، ثم تخلص بعد ذلك من «الحسين» قائد القواد الذى خلف «جوهر الصقلى» بعد وفاته، حتى يستقيم له أمره ويسيطر سيطرة كاملة على مقاليد البلاد. 

ويسجل «ابن كثير» أن «الحاكم» هو أول من عوّد المصريين على أن يقفوا إجلالًا وتعظيمًا لاسمه عندما يرد فى خطبة الجمعة. ويرتبط باسم هذا الرجل الفريد فى التاريخ الفاطمى العديد من الحكايات الأخرى التى تحمل إجراءات اتخذها من أجل ضبط أوضاع العوام من أهل مصر. 

وقد انتهى أمره فى الحكم بالقتل بوشاية من أخته، كما يذكر «ابن كثير»، لكن حكاياته لم تنته، حتى ما يتعلق بوفاته، إذ يقول بعض المؤرخين إنه اختفى، وروجت العامة أنه سوف يعود مرة ثانية. وفكرة «الغيبة والرجعة» شيعية بامتياز، وتؤشر إلى أن الفكر الشيعى كان قد بدأ فى التغلغل فى الوجدان المصرى خلال هذه الفترة. 

وبعيدًا عن القصص المثيرة التى تروى عن الحاكم بأمر الله تحكى لنا كتب التاريخ حكايات تدحض أن يكون الرجل بهذا المستوى من التفكير، وتشير إلى أن له الفضل الأول فى إنشاء «دار الحكمة» التى مثلت مركزًا للإشعاع الثقافى، وأنه لم يكتف بنشر الفكر الشيعى، بل اعتنى بنشر المعرفة بالمذاهب السنية أيضًا، وقد تزاحمت داخل مكتبة «دار الحكمة» أنفس وأبرز كتب التراث الإسلامى، بالإضافة إلى كتب العلوم والفنون والطب والصناعات وغيرها. وقد أسس الحاكم أيضًا دار العلم للمتعلمين. وفتحت فى كل من دار الحكمة ودار العلم مجالس للمناظرة والمحاضرة، يخصص فيها قسم للرجال وقسم للنساء، وكانت المناظرات تنقل أحيانًا إلى قصر الخليفة فيشترك فيها أو يشرف عليها، ويأذن لكل ذى رأى بأن يدلى برأيه وإن خالف به إجماع الآراء. 

يقول عباس العقاد فى كتابه «فاطمة والفاطميون»: «قام بعد العزيز بالله أسطورة فى شكل إنسان، لو لم يكن تاريخه خبرًا يقينًا لشك فيه المؤرخون أو أجزموا بإنكاره، ذلك هو الحاكم بأمر الله، يعمر ويخرب، يلين ويقسو، ينهى عن المراسم ثم يفرض منها ما يشبه العبادة، وكان يجيز شعائر أهل السنة وأهل الذمة ثم يمنعها ويبطش بمن يعلنها، وكان يحرم المباح ويبيح الكفر البواح، وكان يبدل الليل بالنهار والنهار بالليل».

اعتنى «العقاد» كما يوضح النص السابق بإظهار الحاكم بأمر الله كشخصية متناقضة، مذبذبة الرأى، ليس لها قناعة ثابتة، بل تقرر وتفعل ما يعن لها بغض النظر عن اتساقه أو تناقضه مع ما سبق وقررته أو فعلته. وواقع الحال أن قراءة وتحليل شخصية «الحاكم» على هذا النحو تسقط من حساباتها الدور الذى لعبه المؤرخون فى انتحال القصص والحكايات وتلفيق الأحداث بالشكل الذى يخدم رؤيتهم وموقفهم السياسى ومذهبهم الدينى، وكأن الصراع بين السنة والشيعة لم يكتف بإشهار السيوف وفقط، بل تجاوز ذلك إلى إشهار أقلام المؤرخين من كل مذهب فى وجه أصحاب المذهب الآخر، فيما يشبه الحرب الدعائية.