رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كل باكية تكذب إلا «الأنصارية»

من يفهم الحياة بعمق يعلم أن عمر الحزن فيها أطول من عمر الفرح. بهذه المعادلة عاشت المرأة الأنصارية مساحات حزن خلدها التاريخ. ليس كل حزن مما يمكن أن يكون موضعًا لاحتفاء المؤرخين، إنه فقط الحزن النبيل الذى يرتقى بصاحبه أو صاحبته، حين يتحول إلى مخزون مشاعر تدفع إلى مزيد من الإيمان والعطف والتعاطف مع المستضعفين فى الأرض، لم يحمل حزن المرأة الأنصارية أى نوع من الكراهية، بل كان تقيًا نقيًا يوقد لديهن شعلة الحب.

فى غزوة أحد استشهد العديد من أبناء الأنصار، وهم يدافعون عن الإسلام ضد هجمة الشرك، تدفقت الأخبار فى بداية المعركة إلى سيدات الأنصار تقول بأن الريح تجرى مع المسلمين، لكن سرعان ما جاءت أخبار نقيضة تقول بأن المشهد اختلف وأن يد الشرك استطالت وطالت رقاب صحابة النبى من المهاجرين والأنصار. مشهد العائدين من أحد كان ينبئ بمأساة بانت أماراتها فى أعين الرجال، وأحست بها المرأة الأنصارية عن بُعد، فتاريخها مع الحزن النبيل علمها رهافة الإحساس. انطلق شلال دموع الألم على فراق الأحبة من أعين الأنصاريات، ولهجت الألسنة بتعديد مآثر الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فقضوا نحبهم راضين مرضيين.

جعل نساء الأنصار يبكين على من قتل من أزواجهن وسرت أصواتهن حتى غطت سائر دروب المدينة وسمعها رسول الله، صلى الله عليه وسلم. كان قلب النبى مليئًا بالحزن، إنه راض بقضاء الله، لكنه إنسان يشعر بعميق الحزن على من فقد من صحابته وأحبته، وعلى رأسهم عمه حمزة. كان يمر فى أزقة المدينة حين سمع النوح والبكاء فى الدور، قال، صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قالوا هذه نساء الأنصار يبكين قتلاهم، فقال لكن «حمزة» لا بواكى له واستغفر له، فسمع ذلك سعد بن معاذ بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وعبدالله بن رواحة، والثلاثة من رجال الأنصار، فمشوا إلى دورهم فجمعوا كل نائحة باكية كانت بالمدينة فقالوا: والله لا تبكين قتلى الأنصار حتى تبكين عم النبى، صلى الله عليه وسلم، فإنه قد ذكر أنه لا بواكى له بالمدينة، فلما سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: ما هذا؟ فأخبر بما فعل الأنصار بنسائهم، فاستغفر لهم وقال لهم: خيرًا، وقال: ما هذا أردت وما أحب البكاء، ونهى عنه.

لم يكن النبى، صلى الله عليه وسلم، يصادر على شلال الحزن الذى انفجر فى صدور وأعين الأنصاريات على شهداء أحد، فهو نفسه، صلى الله عليه وسلم، كان حزينًا على عمه، لكنه أراد أن يعلمهن أن الحزن فى القلب، وأن الحزن الذى يسكن القلب هو الذى يتحول فيما بعد إلى طاقة نبل، تحيى إنسانية الإنسان، وتعلمه كيف يرق لغيره، كما أحزنه استغلال المنافقين واليهود للموقف. فالمنافقون شرعوا يقولون للمسلمين: لو كنتم أطعتمونا ما أصابكم الذى أصابوا منكم. وظهر غش اليهود وقالوا لو كان نبيًا ما ظهروا عليه ولا أصيب منه ما أصيب. كل هذا جعل النبى، صلى الله عليه وسلم، يدعو إلى كتمان الحزن فى القلب، رغم إجلاله واحترامه له. ليس ذلك وفقط بل لقد روى أن النبى، صلى الله عليه وسلم، ذهب إلى بيت سعد بن معاذ بعد استشهاده متأثرًا بجرح أصيب به فى غزوة الخندق، فوجده مسجى على باب البيت وأمه كبشة بنت رافع جالسة أمامه تبكى وتنوح وتعدد عليه تعديدًا يفطر القلب، فقيل لها: مهلًا يا أم سعد. هذا رسول الله. فقال النبى، صلى الله عليه وسلم: دعوها.. كل باكية تكذب إلا باكية سعد.

تعلمت المرأة الأنصارية كيف تكتم حزنها فى قلبها حتى يستحيل إلى طاقة قوة قادرة على إعادة صياغة مشاهد الحياة. تجد نموذجًا لهذا التحول فى السيدة الأنصارية «أم سليم بنت ملحان» زوجة أبوطلحة الأنصارى. فقد رزقهما الله بصبى كان قرة عين أبيه، وحدث أن أصيب الطفل بمرض فحزن أبوطلحة لذلك حزنًا شديدًا، وتضعضعت أحواله، وأخذ يدعو الله له بالشفاء، لكن سهم القضاء نفذ فى الصبى فمات، فما كان من زوجته «أم سليم» إلا أن نبهت على كل من حولها بألا يخبروا أبا طلحة بوفاة ولدهما، وأن يتركوا لها مهمة نعى الصبى إلى أبيه. كان الحزن يذيب قلب «أم سليم»، لكنها تحملت، وأصرت على تخفيف الموقف على زوجها المكلوم قدر ما تستطيع. هيّأت الزوجة ولدها الحبيب ووضعته على فراشه. 

عاد أبوطلحة من عند النبى، صلى الله عليه وسلم، ملهوفًا على ابنه، سأل أم سليم: كيف حال الصبى؟ فردت: لم يكن فى حال أفضل مما هو عليها الآن، فحمد الأب ربه، ثم قدمت له العشاء فأكل، ثم تهيأت وتطيبت وعرضت له فأصاب منها، بعدها قالت له: اسمع يا أبا طلحة أرأيت إن أعار قوم غيرهم شيئًا ثم طلبوا استرداده، أكان لهم أن يمنعوهم؟ فقال لها: لا، فردت: فإن الله تعالى قد أعارك ابنك ثم استعاده، فاحتسب واصبر. غضب أبوطلحة غضبًا شديدًا وقال لها تركتينى حتى إذا وقعت بما وقعت نعيت لى ابنى، ثم ذهب إلى رسول الله، وحكى له ما كان فدعا له، صلى الله عليه وسلم، بأن يبارك لهما فى ليلتهما، فرزقهما الله فيها غلامًا، لتتعلم «أم سليم» أن الحزن يخرج من رحم الفرح، والفرح ينفلت من بين طيات الحزن، ولا شىء يدوم.. وسبحان من له الدوام.