رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"كيرة والجن".. ورسائل الفن

يُعتبر فيلم "كيرة والجنّ" للكاتب المبدع "أحمد مراد" عودة قوية للأفلام التاريخية، التي تُوثق أهم الحقب في تاريخ مصر، فمنذ فترة ليست بالقصيرة وهذه النوعية من الأفلام لم تكن مطروحة على ساحة السينما المصرية. والحقيقة أن هذا الفيلم أعاد إلينا فكرة الأحداث التاريخية التي يتم سردها من منظور درامي، يعمل على جذب المشاهد، فيحقق له متعة المشاهدة مع توثيق المعلومة التاريخية.

ولا خلاف على أن عرض فيلم عن ثورة 1919م، ولكن بشخوص جديدة لم يتم التطرق لها من قبل في الدراما، مع سرد أحداث تاريخية منبثقة من حوادث درامية لكل شخصية على حدة- صنع حالة من التشويق لدى المشاهد، علاوة على مجموعة من الرسائل سواء الإنسانية أو الوطنية التي رسّخها هذا الفيلم، فلقد ظهر كل بطل من خلال قصة وأحداث مرّت به، دفعته لكي يكون صاحب رسالة وطنية، فاجتمعوا في النهاية في تنظيم سري واحد يستهدف مقاومة الاحتلال البريطاني.

ومن خلال حياتهم الخاصة، استطاع المُشاهد أن يستخلص مجموعة من القيم والأفكار التي تُؤكد أن الإنسان هو الذي يختار طريقه، سواء كان هذا الاختيار من بداية الطريق، أم أنه يقف في مفترق الطرق، ويُقرر تغيير مساره من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وهذا ما حدث لأحد أبطال العمل، وهو (عبدالقادر الجنّ)، والذي جسّد شخصيته النجم الكبير (أحمد عزّ)، الذي قرّر أن يترك حياة اللهو والمُجون، وينضم لمقاومة الاحتلال، فكان مثالًا للإرادة.

وأيضًا الفنان (كريم عبدالعزيز)، الذي جسّد شخصية الطبيب (أحمد كيرة) زعيم التنظيم السري، فلقد قدم رسالة للشخص الذي يتحمل الاتهامات الباطلة من أقرب المُقربين له، الذين يظنّون أنه يتعاون مع الإنجليز، ويظل مُتحملًا نظرة الناس له لكي يُحافظ على سرية التنظيم، رغم أنه يتقرب للإنجليز لكي يصل إلى أسرارهم، ويستطيع مُقاومتهم والتخلص منهم، وكانت هذه الشخصية مثالًا للصبر والثبات الانفعالي.

وأيضًا شخصية "إبراهيم شوكت"، الشاب الأرستقراطي الذي يُعاني من نظرة والده السلبية له، فينضم للمقاومة ويُستشهد في إحدى العمليات الفدائية دون علم والده، وهذا نموذج حقيقي للصمود، والذي جسّد شخصيته النجم الصاعد "أحمد مالك".

أما شخصية "دولت فهمي" والتي جسّدتها الفنانة الكبيرة "هند صبري"، فقد كانت أروع نموذج ومثال للمرأة المصرية، فرغم أنها فتاة صعيدية، إلا أنها تسافر إلى القاهرة، وتعمل مُدرسة، وتنضم إلى جمعية تحرير المرأة، وتُصبح أول فتاة تنضم إلى تنظيم سري، بهدف المقاومة لدرجة أنها تفقد حياتها بسبب إيمانها بقضية الوطن، فهي تتمرد على كل الأعراف والتقاليد الموروثة، وترفض الاستسلام للأفكار التي نشأت عليها، وهذه الشخصية الحقيقية تعتبر نموذجًا رائعًا للتحدي والصمود، وتؤكد لنا أن دور المرأة المصرية ونضالها وكفاحها كان منذ القدم، وأنه على كل فتاة مصرية أن تكون لها رسالة، وأن تتحدى ظروفها مهما بلغت قسوتها لكي تحقق هدفها ورسالتها المجتمعية والوطنية.

فالحقيقة، أن الفيلم مليء بالعناصر الإيجابية التي تبُث العديد من الرسائل الفنية والإنسانية الكفيلة بترسيخ مجموعة من القيم النبيلة في هذا الجيل، وفي الأجيال المقبلة، وهذا هو الدور الحقيقي للفن، لأنه أسرع وسيلة للوصول للناس، لذا أغلب ما يُقدم سواء في دور السينما، أو على الشاشة الصغيرة يجد صداه سريعًا لدى المُشاهد، وخاصة من الأجيال الشابة التي تبدأ في تكوين أفكارها.

وفي الواقع أن السينما المصرية في السنوات القليلة الماضية تحرص على عرض أفلام ذات رسائل إيجابية ولها تأثير حقيقي على المُشاهدين، والرائع أن الجيل الجديد يتأثر بها، وينجذب لها، ويُتابعها بشغف، مما يدل على أن العمل القوي يجد صداه ويترك بصمته، وهذه هي رسالة الفنّ أولًا وأخيرًا.

وأخيرًا، نتمنى أن يستمر تقديم سلسلة الأفلام التاريخية التي تُؤرخ وتُوثق حضارتنا وبُطولاتنا، ولتكون نِبراس الأمل في حياة أجيالنا المقبلة.