رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«بنفكر نقتل أولادنا طول الوقت».. معركة ذوى مرضى التوحد مع مراكز العلاج المزيفة

التوحد
التوحد

داخل قرية ميت تمامة، بمحافظة الدقهلية، وقعت كارثة مدوية قبل فترة قصيرة، حين قررت أم ذبح أطفالها الثلاثة، ثم التخلص من حياتها، بعد خوضها رحلة طويلة من المعاناة مع محاولة علاج ابنها المريض بالتوحد.

الطفل الذي لم يتجاوز عمره 9 سنوات، كانت حالته المرضية من النوع الشديد، حاولت والدته كثيرًا البحث عن حل يعيده إلى الحياة الطبيعية، لكنها فشلت في ذلك بسبب غياب الأطباء المختصين، والتعرض لمراكز علاج وهمية تستنزف أموال المواطنين.

لم تجد الأم حلًا سوى التخلص من ابنها المريض ورفقته بقية أطفالها، كوسيلة منها للنجاة من ضغوطات الحياة التي لم تتغلب عليها إطلاقًا، لتعبر عن مشاعرها في رسالة أخيرة تركتها لزوجها قبل محاولة انتحارها الفاشلة: "بعت أولادي للجنة عشان اتعذبت كتير في الدنيا".

"الدستور" تفتح ملف مراكز علاج التوحد المزيفة التي تخلو من المتخصصين، ولا يسيطر عليها سوى المحتالين، الذين يتاجرون بالمرض ويستغلون حاجة ذوي المرضى في الحصول على علاج لأطفالهم، ليفرضوا عليهم مبالغ مالية باهظة مقابل "الأمل الكذاب".

الجلسات الشهرية تصل إلى 14 ألف جنيه 

"أسماء البنا"، أيضًا، واحدة من آلاف الأمهات اللاتي يعاني أطفالهن من التوحد، ويبحثن طوال الوقت عن وسيلة واحدة للشفاء، وغالبًا ما يخضعن للمراكز التي تستنزف أموالهن، وتعرض حياة أبنائهن للخطر.

روت السيدة الثلاثينية، إحدى قاطنات منطقة المقطم التابعة لمحافظة القاهرة، رحلة معاناتها مع ابنها المريض على مدار 6 سنوات، منذ اكتشاف حقيقة مرضه في الوقت الذي لم يبلغ فيه عمره سوى 10 أشهر فقط.

عدد مراكز علاج التوحد التي توجهت إليها "أسماء" لا تُعد ولا تحصى، فهي لم تترك طبيبًا أو مركزًا إلا وتوجهت إليه، جميعها استغلت حالة طفلها، كونه لم يكن يعاني من التوحد فقط، بل كان مصابًا أيضًا بضمور في المخ، ما جعل حالته الصحية مدرجة ضمن الحالات الخطرة.

"تعبت من اللف بابني على المراكز والعيادات، لحد ما وصلت لمركز هنا في المقطم، وكان بياخد مني 14 ألف جنيه شهريًا، مقابل الجلسات الأسبوعية، وفي الآخر استلمت ابني زي ما هو"، هكذا وصفت الأم أحد المراكز المزيفة التي تعاملت معها خلال رحلتها.

الرحلة الثانية كانت داخل مركز آخر وصل ثمن الجلسات فيه إلى 8 آلاف جنيه، وكان هناك مواعيد مخصصة لمرضى التوحد "أسبوعيًا من الأحد إلى الخميس"، وهناك كانت ترى شعاعا مضيئا يقودها إلى أمل الشفاء، لكنها اصطدمت بالواقع المرير حين وجدت طفلها مصابا بجروح في رأسه، وحين سألتهم عن سبب حدوث ذلك، أبلغوها بأنه قد اصطدم بالنافذة وهو يستيقظ من نومه، لكن روايات ذوي الأطفال المتواجدين داخل ذلك المركز كانت تنفي ما ادعاه مسئولو المكان، خاصة بعد أن اتضح تعرض أولادهم إلى المعاملة السيئة من قبل المشرفين عليهم.

"كانوا بيهينوا الأولاد ويجروهم على الأرض لما ميسمعوش الكلام"، عبرت "أسماء"، خلال حديثها مع "الدستور"، عن المأساة المنتشرة داخل مراكز علاج التوحد، بين إرشادات طبية خاطئة واتباع أساليب مُعنفة مع الأولاد، فضلًا عن الحصول على أموال طائلة من وراء تلك الادعاءات.

وصلت السيدة إلى مرحلة من اليأس ليس لها مثيل، فكرت كثيرًا في قتل طفلها ليتخلص من معاناته نهائيًا، لكنها ترددت قبل اتخاذ تلك الخطوة، لتنتظر الرحمة الإلهية التي تزيل عنها الآلام المصاحبة لها طيلة السنوات السابقة.

قبل أشهر قليلة، وجدت الأم مركزًا حكوميًا بالقرب من المنطقة القاطنة بها، يتسطيع أن يوفر العلاج اللازم لطفلها المصاب، وبالفعل خضع المريض للعلاج أسبوعيًا داخل المركز الجديد، وهناك بدأت أحواله تتحسن عن السابق كثيرًا، بعد أن خضع للعلاج على أيدي متخصصين لا يستغلون ذوي المرضى. 

أرقام مفزعة 

في أبريل 2022، كشفت دراسة صادرة عن مبادرة المسح القومي لمعدل انتشار اضطراب التوحد للأطفال "من أعمار تتراوح بين عام - 12 عامًا"، أن نسبة انتشار المرض في مصر بلغت 1%، أي ما يعادل أكثر من مليون طفل على مستوى محافظات الجمهورية.

بينما كانت أعداد المصابين بالتوحد في مصر 800 ألف مصاب، خلال عام 2014، وفقًا لإحصاءات منظمة الصحة العالمية، كما بينت تقارير معهد أبحاث التوحد، سبب انتشار المرض بطريقة ملحوظة في الآونة الأخيرة، حين أصبح 75 حالة في كل 10 آلاف طفل من عمر 5 إلى 11 سنة. 

10 جلسات في الأسبوع.. والنتيجة "صفر"

قصتنا التالية كانت من داخل مراكز العلاج المزيفة بمنطقة التجمع الخامس، حيث توجهت ليلى "اسم مستعار" رفقة طفلها، البالغ من العمر 6 أعوام فقط، وبالرغم من أن حالة مرضه متوسطة نسبيًا، إلا أنها تعرضت لجميع أنواع الاستغلال المادي خلال رحلة البحث عن علاج.

سنوات من التجول داخل المراكز الخاصة، جعلت الأم يائسة من مصير طفلها: "أي مركز كنت بدخله كان بيحسسني إني ماشية غلط طول الفترة اللي فاتت، وإن ابني ملوش حل وحالته ميؤوس منها، علشان لما يحصل تحسن ينسبوا الفضل ليهم".

لم يكن نسب الفضل هو الهدف الرئيسي لمسئولي تلك المراكز كما كانت تعتقد الأم في بداية رحلتها، فقد أدركت في نهاية المطاف أن جميع المراكز التي توجهت إليها كانت تستدرجها فقط بـ"المعاملة الحسنة" لحين استنزاف أموالها أسبوعيًا.

أسعار الجلسات كانت متفاوتة من مركز لآخر، كان هناك من يحصل على 250 جنيهًا للجلسة الواحدة، في حين أن عدد الجلسات على مدار الأسبوع كان يصل إلى 10 جلسات، أي ما يعادل 2500 جنيه في الشهر الواحد، والنتيجة "صفر".

وبعد فشل جلسات المهارات والتكامل الحسي والتخاطب في علاج الطفل، نصحها أحد المشرفين على المركز بضرورة إجراء "سحب المعادن" من جسد المريض، مدعيًا أن هذه الطريقة تنقذ مرضى التوحد من معاناتهم.

علاجات شديدة الخطورة

وللتأكد من مدى خطورة "سحب المعادن" لمرضى التوحد، أوضح الدكتور بهاء الدين جلال، مدير مركز هيلب للشرق الأوسط وشمال إفريقيا "مركز متخصص في كل ما يتعلق بتوحد الأطفال"، أن جميع المنظمات والمؤسسات الدولية، من بينها منظمة الصحة العالمية، شددت على خطورة هذا الأمر، كونه غير جائز علميًا.

وأضاف: "جميع الأبحاث العلمية التي تم إعدادها حول مدى خطورة سحب المعادن من جسد الطفل مريض التوحد أُثبتت أنها علاجات شديدة الخطورة، بل وأصعب من العلاج بالأكسجين، الذي حذرت منه المنظمات مؤخرًا، كونه غير نافع وقد يكون مضرًا بصحة المصابين".

بهاء الدين جلال

وأشار مدير مركز هيلب للشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى آليات علاج أطفال التوحد في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تتم قبل إجراء أي تدخلات طبية، حيث يوقع ولي الأمر على تعهد للمستشفى، يبرئ  خلاله الأطباء من أي ضرر قد يحدث للطفل المصاب، كونهم يعلمون جيدًا مدى خطورة العلاج بالأكسجين أو من خلال سحب المعادن.

وحذر أيضًا من خطورة انسياق الأهالي وراء صفحات التواصل الاجتماعي، التي تروج معلومات مضللة ويسيطر عليها المحتالون باسم "مراكز علاج التوحد"، موجهًا نصيحته لذوي المرضى بضرورة المتابعة مع المختصين داخل المراكز التابعة لوزارة الصحة المصرية، والابتعاد تمامًا عن مدّعى الطب وأصحاب العلاجات المزيفة.

عقوبات رادعة

قال أيمن محفوظ، المستشار القانوني، إن ظاهرة المراكز الصحية الوهمية تزيد يومًا بعد يوم، مستغلة احتياجات المواطنين من توفير علاجات ضرورية، بهدف الكسب غير المشروع على حساب صحة  المرضى، وهنا تقع عليهم عقوبة التزوير والجرائم الأخرى التي تؤكد ارتكابهم نشاطات إجرامية.

وأوضح "محفوظ" أن المادة 315 من قانون العقوبات تصل فيها العقوبة للسجن، وتكون العقوبة الأساسية طبقا للمادة 336 عقوبات هي معاقبة مرتكبها بالحبس والغرامة بجنحة النصب.

أما انتحال الصفة الذي يمارسه أصحاب هذه الكيانات الوهمية تُعد من جرائمهم المعاقب عليها، طبقا لنص المادة 155 من القانون، وتنص على "كل من تدخل فى وظيفة من الوظائف العمومية، ملكية كانت أو عسكرية، من غير أن تكون له صفة رسمية من الحكومة أو إذن منها بذلك، يعاقب بالحبس".

أيمن محفوظ

ونصت أيضًا المادة 157 على أن يعاقب بغرامة لا تتجاوز مائتى جنيه كل من تقلد علانية نشانا لم يمنحه أو لقب نفسه كذلك بلقب من ألقاب الشرف أو برتبة أو بوظيفة أو بصفة نيابية عامة من غير حق.

واختتم المستشار القانوني حديثه، مع "الدستور"، مشيرًا إلى أن جريمة إدارة منشأة بدون ترخيص العقوبة فيها تصل إلى الحبس والغرامة أو إحدى هاتين العقوبتين، بالإضافة إلى العقوبات الإدارية بغلق المنشأة غير الصحية أو إلغاء تراخيصها إذا كانت مرخصة وخالفت شروط الترخيص، من خلال وجود جناة يعملون بتلك المنشآت دون أن يكون لهم الحق في  العمل بتلك الوظائف، مثل انتحال صفة طبيب وخلافه أو كونهم غير حاصلين على المؤهلات العلمية للعمل بتلك الوظائف.