رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من «المحمل السلطانى» إلى «بركة الحاج»

موكب الحج فى الماضى كان طقسًا شديد الخصوصية فى حياة المصريين، وقد مكث بعض الممارسات التى ارتبطت بهذا الطقس حتى أوائل السبعينيات، أو لما بعد ذلك قليلًا، ثم اختفى تمامًا. إنه أثر الزمن وتحولات الطرق واختلاف حسابات المسافة. فمواكب الحج حين كان الحجيج يمتطون ظهور الجمال تختلف عن مواكب امتطوا فيها ظهور السفن، والنوعان من المواكب يختلفان عن الحج فى زمن الطائرات، والله تعالى أعلم بالقادم، وما يمكن أن تتمخض عنه التكنولوجيا المعاصرة التى تنذر بتحوّل مواكب الحج الواقعية إلى مواكب حج افتراضية. 

تعلم أن العرب- قبل ظهور الإسلام- كانوا يحجون إلى البيت العتيق. فالحج فى الأساس عبادة إبراهيمية، لكن الإسلام صححها وخلصها من الشوائب التى علقت بها فى زمن الوثنية والشرك. وكان العرب المتقدمون- مثل المسلمين من بعد- يتحركون إلى الكعبة المشرفة فى مواكب يتصدرها العبيد. ويشير «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» إلى أن عرب مكة كان فيهم- على وثنيتهم وشركهم- بقايا من عهد إبراهيم، عليه السلام، يتمسكون بها، من تعظيم البيت والطواف به، والإهلال بالحج والعمرة، والوقوف على عرفات والمزدلفة، وهدى البدن، مع إدخالهم فيه ما ليس منه. فكانت كنانة وقريش إذا هلتا قالتا: «لبيك اللهم لبيك لبيك.. لا شريك لك إلا شريكًا هو لك.. تملكه وما ملك» فتوحدانه بالتلبية ثم تدخلان معه أصنامهما وتجعلان ملكها بيده. 

كانت هذه التلبية- على ما فيها من شوائب وثنية- هى أنشودة الحج للمواكب القادمة لحج بيت الله من كل أنحاء جزيرة العرب، وكل ما راج على مواقع التواصل من أن الأنشودة التى وردت فى فيلم «هجرة الرسول»، التى يردد فيها الحجيج فى الجاهلية «نحن غرابا عك»، كانت الأنشودة الرائجة على ألسنتهم يبدو غير صحيح ولا أصل له. فأنشودة الموكب كانت كما ورد فى كلام «ابن كثير». وهى الأنشودة التى أنكرها الإسلام وأبدلها بأنشودة ترتكز على توحيد الخالق العظيم. تضاف إلى ذلك الطقوس الأخرى التى كان يأتيها الحجيج فى الجاهلية وحرّمها الإسلام، مثل التصفيق والصفير. يقول الله تعالى: «وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية». والمكاء هو الصفير والتصدية هى التصفيق، بالإضافة إلى العرى الذى نهى عنه النبى، صلى الله عليه وسلم: «لا يحج بعد العام- سنة تسع هجرية- مشرك ولا يطوف بالبيت عريان».

وكان المسلمون الأوائل يجمعهم موكب عند الحج يتصدره أمير يسميه النبى، صلى الله عليه وسلم، وكان أبوبكر الصديق هو أمير الحج فى السنة التاسعة من الهجرة، وتواصل طقس الموكب فيما بعد. ومع تقدم العصور أصبح هذا الموكب ضرورة أمنية، لأن الحجيج كثيرًا ما كانوا يتعرضون لهجمات الأعراب الذين يعملون فيهم آلة القتل، ويسلبون وينهبون أمتعتهم وما تزودوا به للحج. وتطور الأمر بعد ذلك إلى تعيين حراسة من الجند لهذا الموكب الذى كان يتحرك على الجمال، وكان يتم اللجوء فى أحوال إلى الأعراب أنفسهم ليقوموا بواجب الحماية نظير مبالغ معلومة، فصدق عليهم المثل الذى يقول: «حاميها حراميها».

فى عام ٢٦٦ هجرية وثبت طائفة من الأعراب على كسوة الكعبة فانتهبوها، وسار بعضهم إلى صاحب الزنج وأصاب الحجيج منهم شدة وبلاءً شديدًا وأمورًا كريهة. وسنة ٢٦٩ هجرية- فى عصر «ابن طولون»- قطع الأعراب على الحجيج الطريق وأخذوا منهم خمسة آلاف بعير بأحمالها. لم تكن هجمات الأعراب هى المصدر الوحيد للخطر على مواكب الحجيج، بل أحيانًا ما كانت تقع حوادث قدرية يذهب الحجيج ضحيتها، مثلما حدث مع حجاج مصر عام ٣٤٩ هجرية، حين كانوا فى طريق عودتهم من مكة فنزلوا واديًا فجاءهم سيل، فأخذهم فألقاهم فى البحر عن آخرهم. وكثيرًا ما كانت تخرج مواكب الجمال التى تحمل الحجيج على ظهورها، دون أن تصل إلى مكة، إما بسبب موت الجمال على الطريق الطويل الذى تسير فيه، فيهلك الحجيج بعدها، وربما حبسهم عن الذهاب إلى الحج فى موعده حصار الأعراب لهم، فلا يكون أمامهم إلا العودة إلى ديارهم دون أن يؤدوا الفريضة التى تاقت نفوسهم إليها.

مخاطر الحج كانت عديدة ومتنوعة أيام «مواكب الجمال» التى تسلك الطرق البرية، لكن الفرحة بأداء المناسك كانت تطغى فى العديد من الأحوال على أى خوف، خصوصًا داخل محروسة مصر المحمية، التى امتازت عن غيرها من الدول الإسلامية بالعديد من الطقوس الخاصة المرتبطة بالحج، فقد كان سلطان مصر هو المسئول الأول عن رعاية الحرمين الشريفين، خصوصًا فى العصر المملوكى، وحتى بعد سيطرة العثمانيين وأيلولة رعاية الحرمين إلى إسطنبول، كانت كسوة الكعبة تخرج من مصر، وكان موكب المحمل أحد المعالم التى أبهرت كل من زارها، مثل المستشرق الإنجليزى إدوارد وليم لاين الذى زار مصر خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.

يشير «لاين» إلى أن البدء فى إعداد كسوة الكعبة كان يتم عقب عيد الفطر مباشرة، أى آخر الأسبوع الأول من شوال لتكون جاهزة أواخر الأسبوع الرابع من شوال، حين ينطلق موكب المحمل من ميدانى قرة ميدان والرميلة أسفل القلعة، ليخترق بعدها شوارع القاهرة، وسط فرحة الأهالى الذين يخرجون لمشاهدته، يبدأ الموكب بمدفع ميدان صغير، يستخدم لإطلاق إشارة الرحيل، ثم تظهر فرق الفرسان المسئولة عن حمايته، ويحضر الزفة الكبرى الدراويش الذى يحركون رءوسهم يمينًا وشمالًا هاتفين: «عرفات يا الله» و«الله الله بالسلامة»، وتدق الطبول وتصدح الصفافير، ويشارك فى الاحتفال أيضًا أئمة المذاهب الأربعة. ويظهر فى صدارة الموكب أمير الحج والجمال التى تحمل أمتعته.

يصل موكب المحمل أخيرًا إلى منطقة بركة الحاج، وهى منطقة تجمع الحجاج من مصر، وكذلك الحجاج المارين فى طريقهم إلى مكة بمصر. ومنطقة بركة الحاج تقع حاليًا فى الشمال الشرقى من حى المطرية، وحدد «لاين» أنها تبعد ١١ ميلًا عن وسط القاهرة. فى هذه النقطة يلتقى الحجيج موكب المحمل لتبدأ القافلة فى التحرك من هناك فى السابع والعشرين من شوال، ويدوم السفر ٣٧ يومًا كاملًا، ما يعنى أن الحجيج فى زمن الجمال كانوا يصلون إلى الأراضى المقدسة قبل وقفة عرفات بأربعة أيام.