رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بمناسبة عيد ميلاده الـ87.. فى محبة أحمد عبدالمعطى حجازى

احتفل عشّاق فن الشعر قبل يومين بمرور ٨٧ عامًا على ميلاد شاعر مصر الكبير الأستاذ أحمد عبدالمعطى حجازى، متّعه الله بالصحة والعافية، وهو بالنسبة لكثيرين، أنا بينهم، واحد من عناوين مصر الموهوبة المبدعة، ومن الممكن لو وضعناه إلى جوار يوسف إدريس وصلاح جاهين وحجازى الرسام وبليغ حمدى وعبدالهادى الجزار وكثيرين غيرهم، نستطيع أن نقرأ شيئًا أبعد مما نرى فى وجدان هذا البلد، شيئًَا شجيًا يغرف من مخزون الموسيقى والعذابات الصغيرة والبهجة والبداهة، أحبه شاعرًا تعلمنا على يديه طرائق مبتكرة فى القنص، أحبه أستاذًا يصغى ويحاول أن يطمئن على المستقبل، أحبه رجلًا شريفًا مضطرًا للعمل يوميًا فى هذا العمر لكى يوفر متطلبات الحياة والعلاج، تعرض لظلم كبير بسبب آرائه، وبسبب غيرة محدودى الموهبة، ولم يلتفت إلى الذين حاولوا النيل من كبريائه، الأستاذ حجازى معنى كبير فى الحياة، عف اللسان واليد، أعرفه منذ فترة مبكرة.

وفى السنوات العشر الأخيرة اقتربت إليه أكثر، وكنت قريبًا منه فى أزماته الصحية المتكررة الأخيرة، وأكون فى أحسن حالاتى وأنا أكتب أو أتحدث عنه، وأسعى دائمًا للاحتفال بوجوده بيننا، استرد جزءًا من عافيته فى الأسابيع الأخيرة، وترأس مؤتمرًا عن عشرينيات القرن الماضى افتتحه بورقة ناصعة البيان عن مصر التى كانت ومصر التى نحلم بها.

استعرض فيها تاريخنا مع القهر، إلى أن جاءت ثورة ١٩١٩، ويكتب أسبوعيًا فى «الأهرام»، وسعدث كثيرًا بخبر انضمامه الوشيك لكتّاب «الدستور»، حجازى هو ما تبقى لنا من زمن الأحلام الكبرى.

فى ذكرى ميلاده هذ العام أحاول إعادة صياغة تاريخى معه، من خلال كتاباتى السابقة عنه، القاهرة التى استقبلته يفصل بينها والقاهرة التى استقبلت جيلى ثلاثة عقود على الأقل، قاهرة الخمسينيات كان يظللها غناء عظيم وثقة فى المستقبل، ورغم عراقة المدينة كان الشباب فى المقدمة، فى الحكم والشعر والرسم والسينما والموسيقى والمسرح ومعظم مناحى الحياة، حجازى بعد مجيئه من تلا محافظة المنوفية أصبح معروفًا بعد نشره أربع قصائد فقط، وكتب عنه من النقاد الكبار: أنور المعداوى وعبدالقادر القط ورجاء النقاش «الذى كان طالبًا»، شاعر يملك عينًا بريئة وإيقاعًا رشيقًا مباغتًا وقلبًا عطوفًا، ويشعر بالوحدة، وصوته لا يشبه أحدًا رغم خروجه من صلب الرومانسيين العظام.

شعر إنسانى يعرف طريقه إلى القلب، ملىء بمحبة الحياة حتى لو كان الشاعر حزينًا، كان يرفض المدينة القاسية، المدينة التى يبدو فيها الإنسان ضئيلًا والمبانى عالية، مدينة تبنى مجدها على أشلاء هذا الإنسان، مدينة لا توجد بها حقول ولا تستطيع أن تبحث عن الفجر فيها. حجازى الذى عمل مصححًا للغة العربية فى «دار الهلال» لمدة أسبوعين، وانتقل كصحفى إلى «صباح الخير» و«روزاليوسف» وزامل رفيقه عظيم الشأن صلاح عبدالصبور وأسطوات مهنة الصحافة، جاء إلى المدينة من أجل الشعر، وتحقق له ما أراد، لأن الأحلام «أحلام جيله» كانت فى متناول اليد، كتب وأبدع وأثر فى الشعر العربى كله وأصبح رائدًا من ضمن الرواد، واعترف محمود درويش وأمل دنقل بأستاذيته لهما، وشعر بالزهو ودعم تجربة عبدالناصر، وعانى مثل الجميع من الهزيمة وسافر إلى فرنسا وتغرب، وبدأ يتردد على القاهرة من جديد، القاهرة التى تغيرت، فى منتصف الثمانينيات كانت حيوية ما بدأت تدب فى الحياة الثقافية، انتهت القطيعة العربية لمصر التى سببتها اتفاقية كامب ديفيد، وظهرت أصوات رائقة غير التى روّجت لها الصحف العراقية والسورية والخليجية، كلفنى الشاعر الكبير فتحى سعيد، رحمة الله عليه، الذى أصبح رئيسًا لتحرير مجلة «الشعر»، بإجراء حوار مع الشاعر العائد، وقتها لم أكن احترفت الصحافة بعد، ذهبت إلى بيته فى مصر الجديدة حيث يسكن فى الطابق الخامس فى بناية لا يوجد بها مصعد «والتى يعيش فيها حتى الآن»، كنت ضيفًا ثقيلًا يسأل أسئلة مستفزة لشاعر كبير، أحفظ قصائده التى تمسنى وأنا أتحسس المدينة بالغة القسوة، والتى كتب فيها «سلة ليمون، الطريق إلى السيدة، مقتل صبى، إلى اللقاء»، مدينة لم يشعر بمحبته لها إلا فى قصيدة «حب فى الظلام» حين قال: «أحس بأن المدينة تدخل قلبى»، أشعر تجاهه بقربى ما، ليس فقط لأننا «منايفة زى بعض» وننتمى للبيئة نفسها، ولكن لأن طريقته فى القنص تجعله الأقرب فى الشعر والحياة معا، والذين لا يعرفون الأستاذ حجازى على المستوى الشخصى فاتهم الكثير.

بعد ذلك التقينا فى صحيفة عربية أعمل بمكتبها بالقاهرة، وكان يكتب لها هو والسيدة زوجته الدكتورة سهير عبدالفتاح صاحبة أجمل كتابين عن أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، وكنت طرفًا وأنا الشاب العشرينى فى تقريب وجهات النظر بينه والشاعرين الكبيرين محمد عفيفى مطر ومحمد صالح حول مجلة كان يُفترض أن تصدر عن هيئة الكتاب اسمها «أشعار» يرأس تحريرها حجازى ومعه مطر وصالح.

استقر سنة ١٩٩٠ نهائيًا فى مصر، وبدأ الكتابة فى «المصور» التى تربطه برئيس تحريرها مكرم محمد أحمد صداقة قديمة ثم «الأهرام»، ورأس تحرير مجلة «إبداع»، التى بدأت تجربته فيها بالهجوم على الحرافيش، وبالطبع انحزت إلى الحرافيش باعتبارى واحدًا منهم، هو تراجع عن محبته لعبدالناصر ولكنى ما زلت أحب عبدالناصر ولم تتأثر علاقتى به، لأن الذى جمعنى به شىء أكبر، هو يهاجم قصيدة النثر التى أدافع عنها وأكتبها، لأننى أقدر منزلته، وأعرف أيضًا أنه لم يتربح من أى موقف اتخذه، جمعتنا محبته للموسيقى ولمحمد عبدالوهاب، وسهرت فى صحبته كثيرًا، ولم أصادف أشخاصًا على دراية بالموسيقار العظيم مثله هو والراحلين الكبيرين الدكتور عبدالمنعم تليمة وكمال النجمى. يدخل علىّ مكتبى المجاور له فى «الأهرام» قبل بلوغى الستين فى سبتمبر من العام الماضى، ويطلب منى آمرًا تشغيل أغنية لليلى مراد لا يتذكر منها غير شطر ولكنها تطارده منذ الصباح، مرة طلب أغنية «حلو ياللى ماشى» لفايزة أحمد، وعندما شغلتها بدأت الدموع تنهمر من عينيه، مرة ومرتين وثلاث، ورطات عظيمة لا تعرف كيف تتصرف فيها، وتعرف بعد قليل أن زمن غنائها استدعى بداخله ذكريات شجية.

قبل عشرين عامًا تقريبًا، كنت خارجًا من «الأهرام» مساءً، وهو على غير عادته يدخل فى هذا التوقيت، فاقترحت عليه بدلًا من صعوده أن نذهب إلى مكان عام كان يجلس فيه دنقل ومحمد مهران السيد وبدر توفيق وصلاح عبدالصبور، مكان لم يدخله منذ ١٩٧٤، سنة سفره إلى فرنسا، ذهبنا وكان المكان عامرًا بالشعراء الشباب وكتّاب القصة، وكان أحد الأصدقاء يشغل الموسيقى التى نحتاجها، والأستاذ حجازى فى غاية السعادة، إلى أن شغل «صافينى مرة» لعبدالحليم والموجى، أغلق الكاسيت وقرر هو الغناء، غناها أكثر من خمس مرات، وتجمع أصحاب الدكاكين المجاورة فى شارع طلعت حرب والمارة، هذا اليوم يتذكره الناس إلى الآن ويتحدثون عنه بشجن.

أنت أمام صوت نادر وقلب صافٍ محب للناس والحياة والغناء، رجل شريف وشاعر عظيم ينشد الألفة ويحلم للبشر جميعًا، لم ينجح خصومه فى خدش كبريائه، أنت مع حجازى مع العذوبة والرقة والحنان، أنت مع خلاصة مصر المبدعة، مصر التى ترك وجدانها الآن يشكله أناس لا تعرف من أين جاءوا