رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحوار السياسى ومواجهة الفساد

أمر طيب وهام وفى توقيت صائب الدعوة لإقامة حوار سياسى وطنى لانطلاق مرحلة جديدة لرسم ملامح «خطة طريق» لتطوير والاستفادة والبناء على ما سبق من جهود إصلاحية ووطنية للتغيير.

من المؤكد أننا عانينا وما زلنا نعانى من تراكمات سلبية تشكلت فى الحقب الأخيرة عبر إحداث تكلسات كونتها آثار حروب خضناها ومواجهات عسكرية دامية مع أعداء فى الخارج والداخل، ومعارك أمنية مع أهل الشر عبر حقب كثيرة، وإعادة بناء الحجر والبشر، وإصلاح اقتصادي، والتعامل مع حالة تراجع حضارية وثقافية تتعلق بحالة من تراجع الوعى العام، وجهود إعادة القراءة الرشيدة لتفاصيل الماضى القريب، والذهاب إلى صياغة واقع جديد نأمله يستجيب لاستضاءات التنوير والتفاعل والاستفادة بمستحدثات العصر من التقنيات الإلكترونية لتطوير نظم الإدارة، وتفعيل نظم الرقابة والمتابعة والحوكمة والشفافية، وتحديث وسائط التعليم، وتأمين المناخ الصالح لأداء منظومة صحية بمواصفات عالمية.

فى مقابلة مع د. أحمد درويش، وزير الدولة للتنمية الإدارية فى العصر المباركى، والشهير بنجاحاته الرائعة فى وضع أسس نظم وآليات الحكومة الإلكترونية ووسائل تفعيلها.. سألت الوزير: كيف يمكن كسر حلقات توارث نظم وثقافات الفساد بين أجيال على وشك أن تغادر الدواوين الحكومية وأخرى تبدأ حياتها الوظيفية.. فكان الرد أنه ليس بمقدور الوزارة والحكومة تأهيل وتدريب صغار الموظفين لأنه أمر مكلف ماديًا نظرًا لأعدادهم الهائلة، ونحن نعتمد على تغيير ثقافة القيادات ليقوموا بدورهم فى نقل تلك الخبرات الجديدة لشباب الموظفين، إلا أن ما كان يحدث على أرض الواقع للأسف يا معالى الوزير هو نقل الخبرات السيئة التى تنشر مفاهيم التواكل والسلبية والتربح واستغلال النفوذ وغيرها من قيم التراث الوظيفى الحكومى السلبى التليد، حتى وصل الأمر أن يصرح د. درويش ذاته فى مرحلة تالية قائلًا «إن 55% يدفعون الرشوة لإنهاء مصالحهم وإن 19% يرون أن الموظف لا يستحق عقوبة الرشوة نظرًا لحالته المالية السيئة..»..
أيضًا لا يمكن تصور أن الفساد وآليات التخلف الإدارى يمكن مكافحتها عبر كتيبات دينية عن الرشوة والهدية فى الوظيفة العمومية أو التصدى لها من خلال تنظيم دورات تدريبية لتعليم فنون الابتسامة كما اقترحها رئيس سابق للجهاز المركزى للتنظيم والإدارة!!
أرى أنه ليس من دواء ناجع سوى العمل وبشكل متسارع لخلق مناخ جيد للموظف لأداء عمله عبر نظم تتمتع بشفافية ووفرة فى المعلومات والتعريف بمعايير تولى المناصب للأكفاء وأصحاب الإسهامات الناجحة، ويأتى فى مقدمة سبل مواجهة كل ألوان الفساد المزيد من نشر أجواء تحفز على الإبداع والتجويد، والإثابة للمجدين، ونشر التجارب الناجحة للاستفادة بتطبيقاتها والتعريف بآليات تحقيقها.. 
وقد ترتفع أصوات تسأل: ما جدوى وجود آليات تحقيق الشفافية وتفعيل آليات الديمقراطية فى الإدارة دون إعمال القانون وتطبيق مواده وبنوده بحسم ومساواة وعدالة معصوبة العينين، وهنا يجب الإشارة إلى أن التزيد فى الحديث عن القانون فى كل تفصيلة من تفصيلات العمل الإدارى يمكن أن يعوق حركة تدفق العمل وسيولته.. ويحكون فى بعض ما جاء فى تاريخ دواوين الحكومة عن حالة «مدير عام» قام وبمجرد توليه مهام منصبه بتعظيم شأن إدارة الشئون القانونية حتى إنه حولها إلى إدارة عامة تتبعها إدارات فرعية لمتابعة التحقيقات وأخرى للتسويات القضائية وثالثة لمراقبة المناقصات والمزايدات ورابعة لشكاوى الموظفين وخامسة للرد على العملاء... إلخ، وعليه كانت النتيجة المتوقعة لازدياد نفوذ تلك الإدارة أن صارت كل الخلافات مهما كانت بسيطة لا يمكن حلها إلا عبر المحاكم فكان إهدار الوقت والمال وتراجع آليات النمو نتيجة طبيعية لتكدس كل أوراق الإدارة على مكاتب الشئون القانونية للبت فى صلاحية كل القرارات، حتى فى تعيين العمال وتصليح دورات المياه!!.. لقد استطاع هذا المدير تحقيق أقصى درجات الفشل لإحداثه حالة من الجمود وإهدار عشرات الفرص لتحقيق إدارته المكاسب المالية والإدارية، ولم تحدث الانفراجة إلا بإقصاء ذلك المدير القانونى جدًا الذى كان يردد مباهيًا أنه لا يمكن لأى متابع لأعمال إدارته أن يجد ورقة واحدة غير قانونية!!
الآن، ورغم الأداء الطيب والمتواصل والمتطور من جانب أجهزتنا الرقابية الكثيرة والواعية حاليًا والمتنوعة الآليات والأهداف والتخصصات والخبرات، وما يعلن عنها من حصاد هائل لأعمالها يكاد يكون بشكل يومى من نتائج لملاحقة عصابات المتاجرة بكل مكتسبات الوطن والمواطن ورزقه وصحته وحياته وحتى أعضاء جسده حيًا وميتًا، إلا أن بعض مظاهر الفساد باتت غريبة لتزايدها بنقلات نوعية إجرامية جبانة باتت تفتقد أقل سمات ومشاعر الإنسانية بشكل لم نعرفه من قبل مجتمعيًا فى أزمنة الشدائد والأزمات الصعبة..
لم يكن من المعقول ولا المقبول متاجرة البعض منا للأسف فى المستلزمات الصحية والدوائية الوقائية والعلاجية مع بدايات غزو فيروس «كورونا» المخيف فى بداياته وتداعياته المتسارعة وسقوط ضحاياه بين مصاب وراحل دون أى واعز من ضمير أخلاقى فى ظروف قاسية!!
يحدث هذا وفرق وعناصر الجيش الأبيض العظيم المنتشرة بطول البلاد وعرضها يقدمون ويبذلون جهودًا إنسانية وملاحم فى العطاء الفدائى فى مستشفيات العزل وفى كل موقع تطلب وجودهم فيه، ويتساقط العديد منهم بين مصاب وراحل.. شهداء للمهنة والوطن وبعطاء نبيل، وسيحكى لنا التاريخ فيما بعد العديد من قصص وحواديت الفداء المصرية العظيمة..
ويبقى للأسف فى المقابل السؤال ووضع كل علامات الاستفهام والاندهاش: أين ذهبت روح ثورة 30 يونيو العبقرية التى دفعت بنا جميعًا إلى ميادين الاعتزاز بالوطن والهوية والفخار بحالة اندماج وطنية تحت علم وراية واحدة ؟!.. أين ذهبت تلك الروح عند البعض منا الذين استثمروا بشكل سلبى نكبات وأزمات مرت بالوطن والمواطن ليزيدوا من وطأة وقعها الصعب على الناس؟!!!
لعل الدعوة لتفعيل حوار سياسى وطنى نجد فيه الإجابة، ونعرف من خلاله السبيل لإعادة نسمات روح ثورة 30 يونيو الرائعة للشارع الوطنى المصري..
لا شك أن فتح النوافذ ليدخل منها هواء الحرية ليتنفس الناس هواء متجددا، أمر يبعث على الأمل فى أن تتقلص مساحات العفونة وتختفى بالتدريج الروائح الكريهة التى باتت تزكم الأنوف وتمنع عن الناس حلم أن يحيوا فى سكينة وهدوء وسعادة وانتصارًا على أهل الفساد والمفسدين الطغاة، والانطلاق نحو جمهورية جديدة فى ظل قيادة وطنية عظيمة، فهل نقتنص الفرصة؟