رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مفهوم صحيح للسلام

قد يظن البعض أن مفهوم السلام هو فقط وقف الحروب وسفك الدماء أو منازعات حول قضايا جغرافية أو منازعات عرقية، ومع كل التقدير لأي اتفاقيات سلمية وأى تعهدات وقف النزاعات وتوقيع معاهدات قد لا تحقق علاقات سلام وتبادل ممثلين، فالسلام الحقيقي هو تحرير الإنسان من كل أنواع الضغوط سواء كان الضغط علي دولة في أمنها وراحة شعبها دون تهديد بالقول أو بالفعل، حتى تسير العلاقات بين الدول القريبة والبعيدة في تناغم وحرية، وتبادل المصالح التي تهم جميع الأطراف في سلام وأمان.
أما إذا رجعنا إلى تقارير مؤسسة الاقتصاد والسلام والتي يرمز اليها بحروف انجليزية IEP ومن تقارير هذه المؤسسة نري أن أكثر الدول تعيش علي هامش السلام لا سيما في الحقبة الآنية، بل وحتي الدول التي تعيش في حالة شبه سلام، فإنها تعاني ضيق العيش وقلة المال وبالتالي ضعف الصحة ونقص التعليم؛ مما يجعل تلك الدول تعاني سوء مناحي الحياة من مأكل ومشرب وملبس وسوء العلاقات داخل الدول وبينها وبين الجيران من دول أخرى قد تكون شبيهة الحال أو أفضل حالًا أو أسوأ حالًا، فالسلام بينها مهدد أو هامشي.
أما الدول الأكثر تملكا للمال قد لا تكون في أفضل الأحوال سلميا، وبالتالي فشعوبها في وضع أقل سعادة لاهتزاز الاوضاع السياسية، وهنا تزداد حالات العنف الذي نراه شبه سائد حول العالم، ففي عام ٢٠١٩ بلغ الإنفاق علي الأسلحة شديدة الدمار أكثر من أربعة عشر تريليون دولار أمريكي، وفي تقدير آخر إن ما يصرف علي أسلحة الفتك والدمار يعادل أكثر من عشرة في المائة من مجموع الأموال في العالم كله، حتي إنه لو قدر أن توزع هذه الكميات المالية علي البشرية كلها فإن نصيب كل فرد في الكرة الأرضية قد يصل لما يعادل ألف وتسعمائة دولار للشيخ كما للطفل المولود منذ ساعات، وما تناله أسرة من خمسة أفراد يقدر بنحو عشرة آلاف دولار سنوياً، فإن تصورنا هذا الوضع فهل سنرى متسولًا في شوارعنا أو عجوزا يرقد علي جانب الطريق؟
وهنا يتكرر السؤال حول المفهوم الصحيح للسلام الحقيقي، وهل يتحقق بوقف الحروب؟؟، لو تخيلنا واقع هذا الحال لعالم بلا منازعات وبلا أسلحة فتك ودمار؟ إلا أن السلام الفعلي هو أكبر وأشمل من وقف آلات القتل والدمار وأقوي من المعاهدات والاتفاقات التي تهتز في غالب الأحوال، فالسلام المطلوب والمرغوب هو تحرير الإنسان من كل ضغط سواء من جانب قادة الدول علي بعضها، أو من جانب المسئولين في الدولة الواحدة علي شعوبها أو علي جيرانهم وهنا يشدنا المفهوم الذي رصدته.                                                                                                                                                                                                                                                                                             الدول وقواميسها علي هذا النحو:
- السلام هو التحرر من كل أنواع الضغوط سواء من قادة الدول على شعوبهم أو بين دولة وأخرى، بحيث لا نري حروبا مدمرة ولا حتي تهديد من أقوياء علي من هم أقل قوة أو أكثرها ثروة، وبالتالي تقتني أحدث الأسلحة ففي الحروب تتمزق الدول غالبة كانت أو مغلوبة.
- أما المفهوم الصحيح للسلام الحقيقي، أو السلام المريح، فهو الحرية من كافة أنواع الضغوط وحيث لا معارك بل تسير الأوضاع أمنيًا في وئام وتناقش المشكلات وكل المعضلات سلميا حول مائدة الأفكار مهما كلف ذلك أو بلغ من جهد ووقت، بحيث توضع الاتفاقيات ليست لصالح القوي على حساب الضعيف ولا الغني على حساب الفقير، بل لصالح الإنسان أولا وأخيرا.
ومن الأمثلة المفزعة، وإن كانت انتهت على أحسن الأحوال وتسمي حرب الثلاثين عاما التي جرت في أوربا بين عامي ١٦١٨ وحتي ١٦٤٨، وهي سلسلة صراعات دامية مزقت أوروبا، وقعت معاركها بدايةً وبشكل عام في أراضي أوروبا الوسطى (خاصة أراضي ألمانيا الحالية) ولكن اشتركت فيها تباعا معظم القوى الأوروبية الموجودة في ذاك العصر، فيما عدا إنجلترا وروسيا. امتدت المعارك إلى فرنسا وشمال إيطاليا وكاتالونيا. خلال سنواتها الثلاثين تغيرت تدريجيا طبيعة ودوافع الحرب: فقد اندلعت الحرب في البداية كصراع ديني وانتهت كصراع سياسي من أجل السيطرة على الدول الأخرى، بين فرنسا وهابسبورغ، بل ويعد هذا السبب في نظر البعض هو السبب الرئيسي، ففرنسا جاهدت لإضعاف منافسيهم آل هابسبورغ لتعزيز موقف فرنسا كقوة أوروبية بارزة، فزاد هذا من حدة التناحر، مما أدى لاحقا إلى حرب مباشرة بين فرنسا وإسبانيا.
كان الأثر الرئيسي لحرب الثلاثين عاما والتي استخدمت فيها جيوش مرتزقة على نطاق واسع، تدمير مناطق بأكملها تُركت جرداء من نهب الجيوش، وانتشرت خلالها المجاعات والأمراض وهلاك العديد من سكان الولايات الألمانية ومناطق بإيطاليا، بينما أُفقرت العديد من القوى المتورطة في الصراع. استمرت الحرب ثلاثين عاما ولكن الصراعات التي فجرتها ظلت قائمة بدون حل لزمن أطول بكثير، ومع كل الأسف إنها كانت حروبا تستند إلي وازعٍ ديني وعلي صراع سلطوي وعائلي، وانتهت بتوقيع معاهدة التسامح عام ١٦٨٩.
لقد كتب الراحل محمد سعيد هيكل كتاب بعنوان "سنوات الغليان الثاني" لحرب الثلاثين سنة عن فترة مهمة من التاريخ السياسي لمصر، وتفاعلاتها مع محيطها العربي ومع القوي العظمي ابتداء من فترة ما بعد حرب السويس إلى منتصف الستينيات، وأشار "هيكل" إلي ما أطلق عليها حرب الثلاثين عاما، وانتهت أخيرًا بتسوية أوربية عامة في مؤتمرين عقدا في وقت واحد وانتهيا بإبرام معاهدتين (مونستر ووستفاليا)، وأنهي مقالي هذا بدعاء وأمل أن تتوقف الحروب والمنازعات كافة لتحل المشكلات حول موائد الحوار حقنا للدماء وفناء الموارد.