رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«مأساة كاتب القصة القصيرة».. رواية عن هشاشة الإنسان في عالم مزّقته الجائحة

الروائي الفلسطيني
الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله

يمتلك الكاتب الفلسطيني البارز إبراهيم نصر الله مشروعًا روائيًا يتفرّع في اتجاهين؛ الاتجاه الأول هو ما أسماه "الملهاة الفلسطينية" التي تغطي 250 عامًا من تاريخ فلسطين الحديث، فيما ينطلق الاتجاه الثاني "الشرفات" من عبثية واقع الإنسان العربي والذي يعتبره الكاتب الوجه الآخر لمشروعه، فلا يمكن فهم ما حدث في فلسطين بمعزل عن معرفة ما ألّم بالإنسان العربي من أهوال. 

غلاف رواية "مأساة كاتب القصة القصيرة"

تأتي رواية "مأساة كاتب القصة القصيرة"، الصادرة عن "الدار العربية للعلوم ناشرون"، بكل ما تحمله من سخرية مريرة جزءًا من سلسلة "الشرفات"، فالأحداث التي تدور في شتاء عام  2020 بينما خيّم وباء كورونا على العالم وفرض الحجر الصحي في مختلف البلدان تتأمل في أحوال الإنسان قبل الوباء وبعده، وتتعدى ذلك لتراقب أثر ذلك الوباء على الحيوانات والنباتات وسائر الكائنات.

تبدأ أحداث الرواية مع فريد، كاتب القصة القصيرة الذي يعمل في التسويق العقاري، الذي نشر قصة قصيرة بعنوان "المُرّبع" ولم يتوقع أن يلتفت إليها أحد مع سيل المنشورات الذي يمتلئ به الفضاء الإلكتروني، لكنه يستقبل رسالة إلكترونية من إحدى المُعجبات حول قصته تفاجئه فيها بدراسة نقدية مُطوّلة حول القصة وتطرق فيها أبعادًا لم يلتفت كاتبها نفسه إليها، ومن هنا تبدأ علاقته "الافتراضية" بها، التي يحول الحجر الصحي دون لقاء حقيقي معها. 

القصة ذاتها كانت قد أثارت زوبعة من انتقادات قارئة أخرى التقاها الكاتب في أحد نوادي القراءة، التي أقرّت بكراهيتها للقصة مع اعترافها بأهمية أعمال أخرى للكاتب. وما بين المُعجبتين، يسرد كاتب القصة القصيرة بضمير المتكلم شذرات من علاقته بأسرته ومديره في العمل وجارته، راصدًا أثر الجائحة، بما أرسته من رعب الموت وعزلة الحجر في تغيير طبيعة الصلة مع الآخر، والعلاقة مع الأشياء والكائنات. 

السخرية والتهكُم 

ليست أحداث الرواية هي البطل في "مأساة كاتب القصة القصيرة"، يدير إبراهيم نصر الله ظهره في الرواية لكل ما هو مألوف ومُنتظر على مستوى السرد الأدبي لا سيّما ذلك الذي يتخذ من الجائحة موضوعًا له، ليكتب رواية ما بعد حداثية بسلاسة تجعل القارئ واقفًا على حدود موضوعات شائكة بسخرية وتهكم بالغين، فالبطل في الرواية هنا هو تلك السخرية من كل شيء.

يرفض كاتب القصة القصيرة في الرواية أن يصير روائيًا ويسخر من الكُتّاب الذين يسقطون في شرك كتابة الرواية. يقول:  "إنني لن أقبل بتحويل نفسي إلى سلعة بالإقدام على كتابة الرواية، التي باتت فريسة سهلة للكثيرين.. لم أكن أذهب إلى النشاطات التي يقيمها روائيون، فأغلبهم، ولا أحب أن أعمم هنا، متنمرون، يتعاملون مع كتاب القصة القصيرة، كأنهم عمال مياومات، وهم أصحاب المشاريع الكبرى، كبار الأغنياء". كما يسخر كاتب القصة القصيرة من النُقاد حراس الحداثة الذين يعتبرون أنفسهم، حسب وصفه، "من كتاب المستقبل، ويترفعون عن الحاضر، باعتباره نفيًا للإبداع". 

ولا تقف الرواية عند حدود السخرية داخل عوالم الكتابة وإنما ينطلق من الفترة الزمنية التي تدور بها أحداث الرواية ليتهكم على بعض السياسات المُشبعة باللإنسانية في ظل عالم الرأسمالية المتوحشة الراهن، يُعلن بطل الرواية أنه التجأ لحماية أمه من الوباء بالدرجة الأولى لأنها "تنتمي إلى فئة الأعمار التي استعد بوريس جونسون لتقديمها قربانا للوباء ما إن وصلت جحافله إلى لندن"، وينتقد مُتهكما على لسان جدته "قطع ترامب الدعم الأمريكي عن منظمة الصحة العالمية"، و"محاولته احتكار لقاح كورونا". 

ولأن مثل تلك الحالات من التوحش غير الإنساني تجعل حقوق الإنسان التي يرفع العالم الغربي شعاراتها باضطراد موضع استشكال، فإن كاتب القصة القصيرة يكتب بنودًا أخرى من حقوق الإنسان إمعانًا في التهكم من حقوق الإنسان المزعومة؛"لكل إنسان الحق في حياة جميلة بعد الموت، إذا عاش حياة قاسية قبله"، و"لكل إنسان الحق في التفكير داخل الصندوق"، و"لكل إنسان الحق في أن يذرف كمية الدموع اللازمة لإطفاء حزنه دون أي تدخل خارجي". 

لا تطرح الرواية أسئلة أو تأملات مباشرة عن عالم ما بعد الجائحة، ربما لأن ذلك يعني قدرًا من اليقين غير المتحقق في تلك الحالة من الضبابية، وإنما كل المأساة التي يُعاني منها كاتب القصة القصيرة في هذه الرواية، هو ما تكشفه أبسط التفاصيل، عن هشاشة وجودنا الإنساني الذي صرنا في مواجهة عبثيته ما إن أُجبرنا على البقاء في "مُربعاتنا" الخاصة، وفي اعتزال "مُربعات" الآخرين، وفي اكتشاف مأزق الحياة الدائرية التي نحيا من خلالها، وفي حاجتنا لأي "حكاية ينجو فيها البطل لإدراكنا جميعًا أننا هالكون". 

أساليب ما بعد حداثية

تتجلى سمات ما بعد الحداثة في الشكل الذي كتبت به الرواية، التي تأتي مقسمة لقصص؛ قصة أولى، قصة محذوفة، قصة ثانية، قصة ثالثة، قصة رابعة. وفي المساحات الفارغة التي يعلنها الكاتب فرصة للصمت، وكذلك في وصفه للشخصيات فيأتي بصورتهم في المرآة، فيصف أمه ونفسه وأخته والمعجبة بكتاباته بعنوان "صورة في المرآة" راصدًا ملامحهم الشكليّة، فضلًا عن القصة داخل الرواية التي يوردها الكاتب كاملة في حديثه عن بدايته بعالم الكتابة، وفي اختلاط الواقع بالخيال، إذ يعمد الراوي إلى التطابق مع المؤلف في بعض المواضع كحديثه عن كتابة الرواية بقوله: "لن أغفر لبعض الكتاب إنحنائهم لكتابة الرواية ومنهم إبراهيم نصر الله في، لكنني سأحرص على علاقتي به لأنه المسئول عن هذه النوفيلا إلى أن تنتهي".

ترسم رواية "مأساة كاتب القصة القصيرة" عبر إعلاء الصوت الساخر صورًا غائمة عن عالم اللا يقين الذي توارت فيه الحقائق وتعالت به الأكاذيب، عبر رصدها للإنسان الذي أضاف الوباء إلى عجزه عجزًا آخر، وللأمل الواسع الذي تخلّق مع أزمة كورونا لكنه كان واهيًا، وللموت الذي ليس هو القاتل الوحيد للإنسان.