رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حتى تنتصر حضارة الحب على حضارة الموت

منذ الأيام الأولى لولاية الرئيس عبدالفتاح السيسي توجهت كل مبادراته ومشاريعه الكبرى نحو المزيد من الجهود للحفاظ على كرامة الوطن والمواطن.. القضاء على العشوائيات المُهددة لحياة وآدمية ساكنيها والمهدرة لكرامته.. مشاريع الطرق والكباري العملاقة الموفرة للمواطن كرامة العيش في تجاوز لعذابات الطرق القديمة وإهدارها للوقت والجهد والمال.. مشاريع الدفاع الاجتماعي المتعددة والمبادرات المتصلة بالصحة وتطوير التعليم وتأمين توفير السلع التموينية وغيرها من الخدمات... مشروع "تكافل وكرامة".. مشروع "حياة كريمة".. مشروع "التأمين الصحي الشامل".. مبادرات القضاء على قوائم انتظار العمليات الجراحية.. مواجهة تبعات "فيروس سي" والتعامل بنجاح مشهود له إقليميًا وعالميًا.. ويصعب حصر النتائج الإيجابية لتلك المشاريع القومية الإنسانية المتعلقة بكفالة حقوق المرأة والشباب وذوي الاحتياجات الخاصة الموفرة والداعمة للكرامة الإنسانية..
ونحن نعيش هذه الأيام أفراح الأعياد الدينية والاجتماعية والوطنية وحالة التعايش المصرية البديعة، وتبادل التهاني، ومتابعة الاحتفالات الشعبية وعودة الحياة وممارسة الطقوس الاجتماعية والشعائر الدينية إلى حد كبير بعد أن تراجعت وحشية "كورونا" عن معدلاتها الأولى.. نأمل أن تتراجع أيضًا حالات الاعتداء على كرامة المواطن في الشارع.. أن تختفي مشاهد التحرش الرذيلة في الأعياد أمام دور السينما وفي الحدائق العامة.. أن يختفي من حياتنا من يمارسون دور الوصاية الدينية على مواطنينا بدعوى الحفاظ على القيم الدينية وهؤلاء هم أول من يعتدون عليها عبر النيل من كرامة الناس وحقهم في حياة كريمة.. 
لقد تكررت في الفترة الأخيرة مثل تلك الأحداث.. سيدة تعتدي بالضرب داخل عربات السيدات في مترو الأنفاق على فتاة بدعوى أن ملابسها غير محتشمة، وأخرى تقص شعر فتاة لأنها لا ترتدي الحجاب.. ومراقبات لجان امتحان في كلية إقليمية يعتدين بالسب والإهانة على طالبة أثناء الامتحانات لأنها ترتدي فستانًا غير محتشم.. وصيدلي يصفع مواطنة تطلب الدواء لأنها لا ترتدي الحجاب.. ووصولًا إلى تكرار أحداث اغتيالات وشروع في قتل على كهنة ورجال دين من جانب متطرفين على أساس الهوية الدينية (10 حالات أبرزها اغتيال كاهن الإسكندرية على الكورنيش في مشهد دموي بشع !!!)..
يشير لنا دعاة التدين الحقيقي من رجال الدين المستنيرين إلى تلك الآية الكريمة من سورة الإسراء: {وَلَقَد كَرَّمنا بَني آدَمَ وَحَمَلناهُم فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقناهُم مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلناهُم عَلى كَثيرٍ مِمَّن خَلَقنا تَفضيلًا}. وصف التكريم في القرآن الكريم بأنه لجميع بني آدم وليس مقتصرًا على المؤمنين فقط، وهذا دليلٌ على العدالة الإلهية التي أرست حقوق البشر جميعًا من مبدأ العدل الذي يضمن الحفاظ على كرامة الإنسان بوصفها شيئًا ثمينًا له قيمة لا يجوز لأيّ أحد أن يخرقها أو يتطاول عليها أو يقلل منها، والالتزام بهذا المبدأ يعني الإقرار بتنفيذ التعاليم الدينية، وجميع الجهات والمنظمات التي تُعنى بحقوق الإنسان ما هي إلا جهات تركّز على مبادئ جاءت بها الأديان..
ويؤكد لنا الوعاظ في الكنائس أنه ووفق الرؤية المسيحية وعلى ضوء وأنوار تعاليم السيد المسيح وإرشادات الروح القدس، فإن كل تعدٍ على الحياة مهما كان نوعه هو انتهاك لكرامة الإنسانية جمعاء وليس انتهاكًا لكرامة شخص معين فقط. إن حضارة الموت أفرغت الإنسانية من كرامتها، عكس حضارة الحب التي دعى إليها السيد المسيح. فعلى كل مسيحي أن يعي دوره في هذه الحياة وأن يميز وسط صخبها وضجيجها نداءات الروح القدس لكي لا ينحرف مع التيارات المادية الخطرة، فالكنيسة ما زالت تعلم أن حياة الإنسان ليست ملكه أو ملك غيره من البشر وإنما هي ملك الذي خلقه أي الله. لذا فكل من يتعدى على حياة الإنسان فكأنه يتعدى على الله نفسه، إن كبرياء الإنسان الأول قادته إلى معصية الله. وكبرياءه دفعته إلى قتل الأخ لأخيه، فالحسد والغضب يتغلبان على دعوة الرب للإنسان ليحفظ كرامة أخيه ويحبه كما يحب ذاته. واليوم تتكرر الجريمة بحق الإنسانية نتيجة العنف والبغض والمصالح المتضاربة التي تدفع الناس إلى التهجم على أناس آخرين وارتكاب إبادات وحروب ومذابح. كذلك ما تتعرض له النساء والأطفال من بؤس وسوء المعاملة وسوء التغذية والمجاعة والأمراض نتيجةً لما سبق.
ويذكرنا الكاتب الأردني الرائع "عامر الحافي" بأن ما سبق من دعوات للحفاظ على الكرامة الإنسانية ينسجم مع  ما جاء في الكتاب المقدس حول تكريم الله للإنسان، فقد جاء في سِفْر التكوين أن الله خلق الإنسان على صورته، وفي المزامير: "جعَلتَهُ أدنَى قلِيلًا مِنَ الملائِكةِ إِلَى حِينٍ، ثمَّ كلَّلتهُ بالمَجدِ والكرامَةِ، وأعطَيتَهُ السُّلطَةَ عَلَى كلِّ مَا صنعَتهُ يَداكَ. أَخضَعتَ كُلَّ شيءٍ تَحتَ قدميهِ. الغنم والبقرَ وجَمِيعَ المَوَاشِي، ووُحُوشَ البَريَّةِ أَيضًا" (مزمور 8: 5-7). وفي مقابل هذه الكرامة "الأصلية" التكوينية التي يشترك فيها الناس جميعًا، هناك نوع آخر من الكرامة العملية السلوكية التي تقبل التفاضل والتسابق بين الناس، وهي المتضمَّنة في ما جاء في الإنجيل: "فَإِن طَهَّر أحَدٌ نفسَهُ مِن هذِهِ، يكُونُ إِناءً لِلكَرامَةِ، مُقدَّسًا، نافِعًا لِلسيِّدِ، مُستعدًّا لكُلِّ عمَل صَالحٍ"  (2 تيموثاوس 2: 21). وقريب من هذا المضمون الروحي العملي الذي يتحصَّل للإنسان بالطهارة والتزكية، يتكلّم القرآن الكريم عن الإكرام الإلهي الذي يتحصل للإنسان بالتقوى: {يا أيُّها النَّاسُ إِنَّا خَلَقنَاكُم مِن ذكَرٍ وَأُنثَى وجَعَلنَاكُم شعُوبًا وقبائِلَ لِتعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقَاكُم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خبيرٌ} [الحُجُرات: 13]. فالآية تتكلّم عن تكريمٍ تنافسيٍّ يقوم على غايتين اثنتين، هما "التعارف" و"التقوى"، وعلى قدر ما يجتهد الإنسان في تحصيل هاتين الغايتين، فإنه ينال التكريم الإلهي..ولا تنفكُّ كرامة الإنسان عن إنسانيته، فهي كرامة ذاتية "أصلية" غير مقصورة على أتباع دين، أو عرق، أو لون بعينه. وقد سعت كثير من الأديان إلى إعطاء هذه الكرامة أبعادًا عَقَدِيَّة تتصل بخصوصية العطاء الإلهي، الذي جاء هبةً من الله للإنسان دون قيد أو شرط.
ويا مؤسساتنا الدينية والبحثية والفكرية وأحزابنا، ويا من ننتظر مشاركتهم في الحوار الوطني القادم.. الكرامة الإنسانية تنتظر من إسهاماتكم الكثير لنعيش حضارة الحب.