رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسامة الأزهرى: المسلمون توقفوا عن تجديد نموذجهم المعرفى منذ 4 قرون (حوار)

أسامة الأزهرى
أسامة الأزهرى

اعتبر أن بناء شخصية الإنسان المتدين أهم قضايا تجديد الخطاب الدينى

نواجه حربًا تستهدف أن يكون المصرى يائسًا ومتحيرًا فى كل شىء

غياب مصر عن مشهد إحياء الإسلام أبرز العبثية والفوضوية والتيارات المتطرفة

الأزهر يضم مدارس العلم المصرية وتراكم الخبرات والإمام الأكبر يقود سفينته بتجرد وأمانة

قال الدكتور أسامة الأزهرى، مستشار رئيس الجمهورية للشئون الدينية، إن عملية تنقيح التراث لا تتوقف على أفراد أو جهات أو مؤسسات، بل تتوقف على المعيار والمنهج، مشددًا على ضرورة إعادة صناعة «النموذج المعرفى» للمسلمين ورؤيتهم الكلية للكون والحياة والدين، بعد توقف تجديد هذا النموذج منذ ٤ قرون.

وحذر «الأزهرى»، فى حواره مع «الدستور»، من أن هناك حربًا تستهدف الإنسان المصرى؛ ليكون يائسًا ومتحيرًا فى كل شىء، خاصة أن مصر هى التى ينبغى عليها إعادة إحياء الإسلام والحفاظ عليه، لأنها عندما غابت عن المشهد برزت العبثية والفوضوية فى المنهج العلمى، الذى أوصل إلى التيارات المتطرفة من «الإخوان» إلى «داعش».

■ بداية.. دخلنا العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك فكيف يستقبل المسلم عيد الفطر؟

- بالفرح، كما أوصانا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقد قال رسول الله: «للصَّائمِ فرحتان؛ فرحةٌ حينَ يفطرُ، وفرحةٌ حينَ يَلقى ربَّهُ»، وفهم بعض العلماء «فرحةٌ حينَ يفطرُ» أى: عندما تنقضى أيام رمضان ويأتى العيد؛ فيفرح الناس بمجىء العيد، وفهم بعض العلماء «فرحةٌ حينَ يفطرُ» يوميًا، أى: له فرحة فى كل يوم يفطر فيه، مما يجعل الفرَح متكررًا بتكرر أيام شهر رمضان.

وذلك المعنى لا يتناقض مع المعنى الأول، بل يزيد فيه ويوسع المعنى، ويجعل الشرع الشريف يريد للإنسان الفرَح كل يوم عند فطره، ويفرح فرحًا أكبر عندما تكمل العدة وتنقضى أيام رمضان ويأتى يوم العيد.

■ كيف يمكن تنمية القيم الإسلامية الحقيقية وإبعاد الناس عن نزعات التطرف وشبح الاستقطاب طوال العام؟

- وقف علماء الأمة عند كلمة الإسلام، وجمعوا كل ما يتعلق بها من فروع الشريعة، فولد علم الفقه بمذاهبه وأصوله وقواعده ومقاصده، واستفاضت علوم الفقه نابعة من كلمة الإسلام، وعكف علماء الأمة المحمدية على خدمة باب الإيمان، وجمعوا ما يلتحق بها من مسائل علوم العقيدة، فولد علم الكلام الخادم للعقيدة بمناهجه، ثم عنيت الأمة المحمدية بخدمة باب الإحسان، فولدت أبواب الأخلاق وعلوم التزكية وعلوم النفس والتصوف، التى هى علاج وتزكية وتطهير وتهذيب وتنظيف للنفس البشرية من كل معانى الكبر والحقد وما أشبه ذلك.

ووقف العلماء عند كلمة الإسلام، والشهادتين والصلاة والصوم والزكاة والحج، ورأوا فيها نسقًا إلهيًا، وأن الإنسان مكون من خمس قوى، هى: الجسم والنفس والعقل والقلب والروح، فباجتماع القوى يستوى الإنسان، فجعل الله أركان الإسلام خطابًا ومخاطبات للقوى الخمس للإنسان.

وكانت الشهادتان تزكية للعقل، ثم الصلاة ترويضًا للجسد ومخاطبة للقلب وتهذب النفس وتخاطب الروح وتزكى النفس الأمّارة، ثم الصيام، فالصوم قوة لإرادة العبد بالتسامى وخطاب للبدن لتزكيته حتى يتطهر فى شهر رمضان، وتأتى الزكاة تزكية للإنسان لقطع شهوة النفس عن المال، حتى تروض النفس على أن تزكى بالمال، ثم الحج تهذيب للقلب، ليملأ القلب تعظيم الشعائر وتعظيمًا لمعالم الحج.

والله جعل أركان الإسلام توجه مخاطبات متعددة ومتنوعة لتزكية النفس وبعث الهمم والإرادات فى القلب، ودفع الروح وهداية العقل، حتى ينشط الجسد فى طاعة الله، ويتخلى عن معصيته.

فإذا اجتمعت الهدايات التى جعلها الله فى أركان الإسلام وأشرقت بأنوارها على القلب والعقل والروح والنفس والجسد استطاع الإنسان أن يصنع الحضارة، وأن يحقق مقاصد الشريعة، وأن تبرز على يده مكارم الشريعة بين العالمين، وإذا استوعب الإنسان حقائق الإسلام وفهم مقصود الشهادتين والصلاة والصوم والزكاة والحج، فإن هذه إذا اجتمعت واستنار بها الإنسان صنعت منه إنسانًا يحقق السبق فى العلوم ويأتى بالإبداع والاكتشافات.

وأدعو المسلمين فى كل أنحاء العالم إلى أن ينطلقوا من فهم عميق للقرآن الكريم والسنة المشرفة لاحترام الأكوان وإكرام الإنسان وزيادة الإيمان وحفظ الأوطان.

فالإنسان يكون من المحسنين إذا أُوتى الحكمة والعلم، فيصنع كل شىء على أكمل وجهٍ وأرقى وجهٍ، فيُوصف بأنه من المحسنين، ويكون من أصحاب المقام الرفيع الذى هو مقام ورثة النبوة؛ لأن الأنبياء هم سادة المحسنين.

■ فى رأيك.. ما أخطر ما يواجهه المصريون فى واقعهم الحالى؟ 

- الإنسان المصرى عظيم الاعتداد بنفسه، وموجات التشكيك هدفها أن تغرس فى المصرى أنه محبط ومكتئب وفاشل ويائس ولا أمل عنده ولن يصنع شيئًا، إلى أن يصير كيانًا محبطًا ليس عنده همة ولا أمل ولا طموح ولا وعى، فهناك حرب تستهدف المصرى حتى تجعله عازفًا يائسًا ومتحيرًا فى كل شىء، ليس عنده شىء ثابت يستند إليه، ولو أنه وقع فريسة لهذه الموجة العارمة من التشكيك ستصل به إلى الإدمان، أو الانتحار، أو الإلحاد والإرهاب والتطرف أو الانهيار السلوكى والأخلاقى، وإذا فقد الإنسان البنية النفسية المتماسكة التى تمده بالثقة والوقوف على أرض صلبة فسيلقى فى دائرة مفرغة تدفعه لأى كارثة.

ونحن نعمل على مواجهة ذلك، وخلال الفترة الماضية حضرنا ندوات فى عدد كبير من الجامعات، آخرها كان لقاء بعنوان «دور السياسة الخارجية المصرية فى تعزيز الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب ودور الخطاب الدينى فى مكافحة التطرف والإرهاب»، ضمن فعاليات أسبوع الشعوب بجامعة أسيوط، بمشاركة السفير محمد العرابى، وزير الخارجية الأسبق، وسبقتها ندوات فى جامعات العريش والمنيا وسوهاج وقناة السويس والزقازيق، أكدنا فيها أهمية التسلح بالعلم والوعى بين طلاب الجامعات.

■ ما رأيك فى جهود المؤسسات الدينية فى الوقت الحالى لتجديد الخطاب الدينى؟

- أهم قضية فى عملية تجديد الخطاب الدينى هى إعادة بناء شخصية الإنسان المتدين؛ ليعود قويًا رائدًا شغوفًا بالعلم وبناء الأوطان، وإعادة صناعة الحضارة كما فعل الأجداد الذين قرأوا القرآن فخرجوا منه بالعلم والعمران والأخلاق والقيم وتزكية النفس؛ ليفوزوا بخيرى الدنيا والآخرة، مع إطفاء نيران الفكر الدينى المتطرف.

ونحن نثمّن ونقدر جهود المؤسسات الدينية، وهناك ثلاثة مستويات للتجديد، أولها يكاد يشبه عمل رجل الإطفاء، حين يخرج علينا تيار من التيارات المتطرفة بكارثة من الكوارث، فتحتاج إلى ملاحقة شديدة للرد والتفنيد، وأغلب الجهود المبذولة من المؤسسات إلى الآن فى هذا الطور.

وبعد مرحلة ملاحقة الكوارث الفكرية التى تثيرها التيارات المتطرفة وتفنيدها، يأتى مستوى آخر فى إعادة صناعة الفقه الملائم لهذا الزمن، والذى يملأ العقول مناعة من الفكر المتطرف، وصولًا إلى المستوى الثالث، الذى لم يتم التطرق إليه حتى الآن، وهو إعادة صناعة «النموذج المعرفى للمسلمين» والطرح الدينى والفكرى والعقلى.

■ ما المقصود بـ«إعادة بناء النموذج المعرفى للمسلمين»؟

- النموذج المعرفى هو النظرية الكلية التى ينظر بها الإنسان إلى الكون والحياة والدين، وإلى تعامله مع الحضارات، ونحن كمسلمين توقفنا عن تجديد نموذجنا المعرفى منذ ٤ قرون من الزمان، ونحتاج إلى إعادة النموذج المعرفى الذى كان موجودًا منذ ١٠٠٠ عام، حين كنا صانعين للحضارة.

فقد كنا فى السابق أصحاب إسهامات عظيمة فى الفيزياء والطب والتشريح والفلك وعلوم الحضارة المختلفة والعلوم الاجتماعية والعقلية والإنسانية والنفسية المختلفة، وعندما اختل هذا النموذج ابتلينا بما نجده الآن من «سرطانات»، لذا نحتاج إلى العمل فى هذا الاتجاه بأعمق صورة، من خلال أطر كبرى للتجديد.

وأذكر أن مؤسسة «ناشيونال جيوجرافيك» نشرت كتابًا بالإنجليزية قبل عدة سنوات، اسمه «ألف اختراع واختراع من التراث الإسلامى»، ثم تُرجم للعربية، وأصدرت منه نسخة مصغرة للأطفال، وقد عنيت بهذا الكتاب جدًا، وكنت أهديه للأطفال بعد خطبة الجمعة من كل أسبوع فى مسجد المشير طنطاوى، الذى كنت أتشرف بالخطابة فيه، ثم فى مسجد الفتاح العليم، أكبر مسجد فى مصر حاليًا.

وهذا الكتاب جعلنى أفتش عمَّا حققه المسلمون عبر تاريخهم من إبداع فى العلوم نابع من عين الإيمان بالله والإيمان بالنبوات والرسالات وفهم مقاصد القرآن الكريم، واعتنيت فى مكتبتى الخاصة بأن أجمع كل ما أستطيع الوصول إليه من إبداع العلماء من علوم الفلك والتشريح والهندسة وغيرها من العلوم، وما أبدع المسلمون فى مدارس العلم.

■ كيف نتعامل مع التراث فى عملية التجديد؟

- عملية تنقيح التراث لا تتوقف على أفراد أو جهات أو مؤسسات، بل متوقفة على معيار ومنهج، والمنهج يكون من خلال حوار علمى غير نابع من نفوس محتقنة أو حالات ثأرية يحاول كل طرف فيها أن ينتقم من الآخر ويلحق الإهانة به، وغير نابع من حالة متعجلة أو قراءة غير واعية، بل ينبغى أن تكون قراءة عن منهج علمى يمكن أن تقوم به الجامعات والأكاديميات والباحثون فى الدراسات العليا والماجستير والدكتوراه، ويمكن فى هذا السياق أن تتحول مشروعات كتابة الماجستير والدكتوراه إلى هذه القراءة النقدية، وفقًا للمعايير الأساسية المعمول بها فى كل جامعات العالم فى المجالات المختلفة.

ونرى أن الجامع الأزهر الشريف هو الوحيد الذى يقدم العلوم الشرعية فى العالم الإسلامى، كما أن جامعة القاهرة هى المنارة البارزة بين جامعات العالم العربى، وأستحضر هنا كلمة الشيخ محمد متولى الشعراوى: «إن مصر هى التى حمت الإسلام حتى فى البلد الذى نزل فيه الإسلام».

والجميع يعلم أن الجامع الأزهر به المدارس العلمية المصرية فى مختلف المجالات، وتراكم الخبرات والمعارف على مدى عقود وقرون من الزمان، وبالتالى، فإن مصر هى التى ينبغى عليها إعادة إحياء الإسلام والحفاظ عليه، لأنها عندما غابت عن المشهد برزت هذه العبثية والفوضوية فى المنهج العلمى، الذى أوصلنا إلى التيارات المتطرفة من «الإخوان» إلى «داعش».

■ كيف نواجه دعوات التخلى الكامل عن التراث؟

- هناك ٤ مناهج فى التعامل مع التراث، هى: القبول المطلق بكل ما هو مدون فى التراث، وهذا خطأ، لأن التراث اشتمل على مناهج علمية رصينة ومهمة ومعالجات ناسبت ظروف زمانها، ثم مضى عليها الزمن ولم تعد صالحة لزمن آخر، ولو أننا قبلنا بكل ما هو مدون فى التراث سنستفيد بمنهجية علمية رصينة، لكن مع معالجات زمنية لم تعد مهمة لزمننا.

وهناك الرفض المطلق، وهو الذى يجعلنا نتلافى مسائل متعلقة بزمن مضى، لكن نهدر بجانبها مسائل علمية رصينة، لذا فإن القبول المطلق والرفض المطلق غير مقبولين.

أما المنهج الثالث فى التعامل مع التراث فيحاول أن يدرك أن هناك خطأ فى القبول المطلق وخطأ فى الرفض المطلق، فيتحول إلى حالة الانتقاء العشوائى، وهذا خطأ آخر، لذا يبقى المنهج الأخير الذى يحتاج إلى ورش عمل وصناعة عملية متقنة للانتقاء الواعى.

■ ما أهم العراقيل التى تواجع المتعاملين مع التراث؟ وكيف نفرق بين النص المقدس والاجتهاد البشرى؟

- الآن، نحن فى حاجة إلى إعادة بناء المنهجية العلمية المنضبطة فى كل المجالات، واحترام التفرقة بين المصادر: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وبين منهجية الفهم والاستنباط، والمواهب والملكات التى يتمايز ويختلف بها الناس، فنحن نريد بناء العقلية الفارقة التى تفرق بين القطعى والظنى، والتى تفرق بين النص وتفسير النص، والمحكم والمتشابه وبين الثابت والمتغير، وتدريب العقل على فهم الفوارق التى تبدو متشابهة أول الأمر.

والبعض يخلط بين النص الثابت والمتغير، ويرجع ذلك إلى اختلال منهجية العلم والتعليم، فقد تعلمنا فى الأزهر الشريف أن هناك ٣ أركان للعلم، أولها المصادر والأدلة المكونة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فهذه المصادر الأربعة تمثل ثلث العلم، ثم يأتى الثلث الثانى، وهو فهم المصادر، ثم الثالث وهو عبارة عن المؤهلات والمواصفات التى يجب أن تتوافر فى القائم بهذه العملية، التى هى صناعة علمية ثقيلة ومحكمة وتحتاج إلى خبرة.

ونستطيع بناءً على ذلك أن نقول إن البنية المستقرة الآمنة للعلم تكون بمراعاة الأدلة والمصادر، ومنهجية الفهم والتحليل للأدلة والمصادر، والمؤهلات التى ينبغى توافرها فى الشخص.

■ فى تقديرك.. هل الرؤية المصرية لتجديد الخطاب الدينى مؤثرة خارجها؟

- نعم، والآن نرى مصر حاضرة فى كل الفعاليات الدولية بقوة، وعلينا أن نأتى برؤى التجديد من المصادر الأصلية، ومن فهمنا الصحيح للقرآن الكريم والسنة المشرفة ومقاصد الشريعة وعلم القواعد الفقهية، وكذلك التراث الواسع الشامل الذى يشمل الطب والفلك والتشريح وعلوم البحار وأدب الجغرافيا، لأن كل هذا العطاء الواسع الذى استمر على مدى ألف سنة بُنى على نموذج معرفى محكم متقن، وعندما اختل النموذج أدى مباشرة إلى التراجع.

احتفى الأزهر الشريف خلال الشهر الماضى بمرور 12 عامًا على تولى الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب فكيف ترى مسيرة المؤسسة تحت قيادته؟

- الأزهر الشريف مؤسسة عريقة أثبتت للعالم على مر التاريخ والأزمنة قدرتها فى العطاء وخدمة الدين وتحقيق صالح الإنسانية، والحقيقة أن الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب يحمل حملًا كبيرًا على كتفيه، ويقود سفينة الأزهر بمنتهى التجرد والأمانة، وهو أستاذنا ورمزنا الذى نتشرف ونعتز به، وندعو الله له بمزيد من الصحة والعافية.