رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ليلة الرؤية.. وأنغام «المسحراتى والمنشد»

 ليلة الرؤية 

ما إن تتسلل خيوط فجر ٢٩ شعبان حتى ينهض الجميع وقد توحد لسانهم على سؤال واحد: «يا ترى بكره رمضان ولا متمم لشعبان؟».. يظل السؤال يتردد حتى يهبط الليل وتحين لحظة الإعلان.. وما بين الصبح المتنفس والليل إذا عسعس تتدفق الإشارات والنبوءات وأحيانًا الشائعات.

مصر الستينيات والسبعينيات كانت لها طقوسها الخاصة فى التعامل مع «ليلة الرؤية».. وهى طقوس تبدأ مع مطلع النهار، ويطلق شراراتها الصغار الذين ينخرطون فى اتفاقات ملزمة حول كيفية الاحتفال بإعلان المفتى عن ظهور هلال رمضان، بعضهم يبدأ فى جمع أقفاص الفاكهة الملقاة فى الشارع وملئها بالورق تمهيدًا لإشعالها، ليضيئوا بها ظلام الليل، وبعضهم كان يتحضر- إذا امتلك الثمن- بالبمب والصواريخ وخلافه.

الاستعداد والتحضير لم يكن يشغل سوى ساعة أو ساعتين من الورقة الأخيرة فى أيام شعبان، بعدها ينشغل الصغار ومعهم الكبار بالسؤال من جديد: «هل بكره رمضان أم متمم لشعبان؟».. يبدأ البحث عن الإشارات.. ها هو عم «حنفى» يمنح البشرى الأولى.. وعم «حنفى» هذا بائع الفول الذى اعتاد المجىء- صباح كل يوم- بعربته الصغيرة التى تعلوها قدرتان، واحدة للفول والأخرى للبليلة.. لم يكن يأتى مرتين طيلة العام إلا يوم ٢٩ شعبان، كان الرجل يستطلع الهلال عصرًا بقلبه، فإذا ثبتت الرؤية القلبية أتى للمرة الثانية بعد العصر، وإذا غمت عليه الرؤية لم يأت.. مجيئه بعد العصر كان أولى البشارات بأن غدًا هو أول رمضان.. والعجيب أن الرجل كان يؤدى على هذا المستوى وكأنه يرى بعين الله.

عم «على» بائع الزبادى إشارة أخرى إلى حلول الشهر الكريم، فهو الآخر اعتاد المجىء مرة واحدة فى اليوم لبيع اللبن والزبادى، وذلك عقب صلاة الفجر، فإذا ثناها بمرة أخرى بعد المغرب، فمعنى ذلك أن غدًا أول الصوم.. زمان كان الزبادى يُباع فى السلاطين: الصغيرة والكبيرة.. ولم يكن يعبأ فى علب بلاستيكية كما نرى اليوم، وهناك مَن يقدمه حتى اللحظة فى سلاطين.. لكن أين طعم ورائحة الماضى؟

بشارتان كانتا تسبقان الرؤية.. ومعهما الأخبار التى كان يسترقها مدمنو الاستماع إلى إذاعة «بى بى سى» فى الستينيات والسبعينيات، ويقولون فيها إنهم سمعوا أن الهلال ظهر فى هذه الدولة العربية أو تلك، من الدول التى تشترك معنا فى جزء من الليل، وبالتالى من المتوقع أن تعلن الحكومة عن أن غدًا أول رمضان.

لم تكن الحسابات الفلكية مؤثرة فى ذلك الوقت.. وكان الأساس هو الرؤية الشرعية، لذا كان رمضان أو العيد مفاجأة حقيقية، تخفق معها القلوب بالفرحة عند إعلان مجيئها.. ما أقبح الأحداث المرتبة التى يعرفها الناس قبل وقتها.. إنها توجهات حياتية تفقد الأشياء بهجتها وأحيانًا معناها.

تأتى اللحظة الموعودة، فتُجلجل أصوات الراديوهات فى كل بيت بداخله راديو، إذ لم يكن التليفزيون منتشرًا فى ذلك الوقت، وهى تنقل على الهواء احتفال دار الإفتاء باستطلاع هلال شهر رمضان.. يبدأ الاحتفال بتلاوة آيات الصوم من كتاب الله عز وجل، ثم يلقى المفتى بيانه الشرعى بثبوت أو عدم ثبوت الرؤية.

كانت أيامًا تتدفق فيها الخدمات «الدليفرى» كما هو الحال اليوم، فتجد مَن يأتى إليك باحتياجاتك فى مكانك، ببساطة كان البائعون السريحة يأتون لك بما تريد، وقد ورثهم اليوم شباب الدليفرى.. كان طبق الفول الكبير بقرش صاغ، تمامًا مثل سلطانية الزبادى الكبيرة.. والطبق الصغير بقرش تعريفة مثل سلطانية الزبادى الصغيرة.

كانت أيامًا دافئة بالطمأنينة.. وبالمشاعر الإنسانية الحقيقية. 

كنا أطفالًا أواخر الستينيات، لكننا نذكر جيدًا أن رمضانات الستينيات كانت شتوية.. الناس تصلى العشاء والتراويح.. وتجلس إلى جوار الراديو أو فى جلسات سمر لساعات قد تتواصل حتى منتصف الليل، بعدها يبدأ سلطان النوم فى الزحف فترتخى الجفون، وينام الشخص لساعتين أو ثلاث أو أربع، حتى ينبهه صوت المسحراتى لتناول السحور.

مواصلة النهار بالليل عادة ارتبطت بحياة المصريين منذ أواخر السبعينيات، وذلك فى الرمضانات الصيفية.. فليالى الصيف قصيرة والفجر فيها يؤذن فى الثالثة وبضع دقائق، تنقص بمرور رمضان حتى لا تتجاوز فى بعض الأيام الدقائق السبع.

كانت أجهزة التليفزيون قد بدأت فى الزحف إلى البيوت المصرية.. ومَن لم يكن لديه تليفزيون يلجأ إلى الانخراط فى طقس المشاهدة الجماعية، حيث تتجمع الأسر داخل البيت أو العمارة الواحدة، عند أسرة يوجد لديها جهاز تليفزيون، ويتشارك الجميع فى الجلوس أمام شاشة صغيرة، يصطف الكبار- الأضعف بصرًا- جلوسًا فى مواجهتها، ويتراص الصغار الأحدّ بصرًا فى الخلف، ويتشارك الجميع فى تقاسم السعادة ببرامج الشهر الكريم.. ومَن ليس له ميل إلى الانخراط فى طقس المشاهدة الجماعية أمامه الراديو الترانزستور.. وكان الراديو حينها يبث برامج رمضانية، آثر كثيرون ترك التليفزيون من أجل الاستماع إليها.

منذ ذلك الحين بدأ «المسحراتى» يتحول من رجل صاحب وظيفة مهمة فى حياة الصائمين المستسلمين للنوم تحت البطاطين فى ليالى الشتاء، إلى إنسان فلكلورى شعبوى يذكّر الناس بالماضى.. باتت له وظيفة أخرى تتمثل فى اللعب مع الصغار الذين يسعدون به وهو يدق بطبلته ويتغنى بأسمائهم وهو يدعوهم إلى الاستيقاظ لتناول السحور.

ذهبت الوظيفة وبقى الطقس.. ولم يكن «المسحراتى» الطقس الوحيد الذى يعتمد على «الطبلة» فى زماننا.. بل كانت هناك أيضًا فرق الإنشاد التى تلف الشوارع والحوارى أواخر أيام رمضان، تنشد وتطرب بأصوات وإيقاعات وأنغام عذبة.. على عكس المسحراتى العجوز- فى الأغلب- كانت فرق الإنشاد الجماعى تتشكل من مجموعة من الشباب، وعلى عكس المسحراتى أيضًا الذى كان يحضر فى كل ليالى رمضان، كانت فرق الإنشاد تظهر فى الأيام الأخيرة من رمضان وهى تردد: «يا عباد الله وحدوا الرحمن.. أنزل القرآن.. فى ليالى رمضان».. ويتبدل الكلام فى ختام الترنيمة إلى «وبعودة يا رمضان».

«المسحراتى» ما زال موجودًا لكنه بات بلا وظيفة.. فليس ثمة من وظيفة لمنبه بين اليقظانين.. أما فرق الإنشاد التى كانت تعمر الليالى الأخيرة من الشهر الكريم بما تحمله من «كلوبات» تنير الشوارع والحياة المظلمة، وما تعزفه من أنغام، وما تردده من كلمات- فقد اختفت تمامًا، ولم أعد أسمع بها أو عنها.. كل ما بقى منها اليوم هو بعض الممارسات الإنشادية التى تلتقطها كاميرات الموبايلات لشباب أو أطفال ينشدون فى محبة النبى، صلى الله عليه وسلم، وأهل البيت الكريم.