رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خاص- دعك من فيلمىّ داعش ونتفليكس عن معركة الموصل.. أنا حضرت المعركة وما رأيته يشبه حرب ستالينجراد (اعترافات مراسل حربي)

فيلم الموصل
فيلم الموصل

أتذكر ذلك اليوم الذي كنت أتحدث فيه مع عدد من القادة العسكريين العراقيين عبر الهاتف، فى نهاية صيف عام 2016، كان الأمر مثيرًا جدًا، كنا نتناقش حول الخطط الأفضل لدخول الموصل، مدينة بهذا الحجم من حيث تعداد السكان والجغرافيا الصعبة، كان فى نهاية كل حديث اتفاق واضح على أنها ستكون معركة قاسية وكفتح باب غرفة مظلمة، وفي بداية أكتوبر وصلتنى المعلومات عن قرب انطلاق العملية.

قبل نحو 10 ساعات من إعلان حيدر العبادى، رئيس الوزراء العراقى وقتها، بدء عملية تحرير الموصل فى 16 أكتوبر عام 2016، تلقيت اتصالًا بأن إعلان عملية التحرير سيكون بعد ساعات، وقبل إعلان التحرير بأقل من نصف ساعة فقط، تلقيت معلومات أمنية شديدة الخطورة تفيد بأن رجال المخابرات العراقية المزروعين فى الموصل منذ سقوطها فى يد داعش يقومون بهجمات داخلية بأسلحة خفيفة لإرباك الجبهة الداخلية فى عدد من الأحياء بالموصل، من بينها منطقة 17 تموز بالجانب الأيسر، حيث أُرسل الضباط قبل احتلال داعش للموصل، وتلقوا أوامر بأن يبقوا هناك لنقل المعلومات واستخدامهم وقت الحاجة، بل عاونهم بعض المدنيين المخلصين للعراق الوطن.

فى نفس اللحظات، حلّقت أسراب طائرات تلقى منشورات على المدنيين بتعليمات السلامة المتبعة للخروج من كل منطقة يجرى فيها اشتباك، وجرى كل هذا فى نفس التوقيت الذى خرج فيه "العبادى" يعلن انطلاق عملية تحرير الموصل فى بث مباشر تناقلته وسائل الإعلام فى العالم، وسميت بـ"قادمون يا نينوى"، فى هذا اليوم لم أتذوق النوم، فقد كنت أتابع من مصر ما يجري هناك في العراق، وكان قلقى البالغ على المليون ونصف المليون نسمة تقريبًا المحشورين فى هذه المدينة الكبيرة، لعلمى باستراتيجيات الدواعش فى حربهم من الاستخدام السافل للمدنيين كدروع بشرية، أملت بأن يظل ظهر المدينة مفتوحا ليتراجع منه التنظيم ويترك المدينة، لكن كان "عشمًا" مبالغًا فيه منّي.

كنت أعلم أن القوات الأمنية العراقية ستطوق الموصل بعد تحرير الجانب الأيسر، واعتقدت أن المعركة ستستغرق قرابة عام، بل كنت أشجع الضغوط من المنظمات الإغاثية لتقل حدة القتال في المناطق ذات الكثافة السكانية ولتأخذ وقتًا كافيًا لتقليل الخسائر البشرية فى صفوف المدنيين، كنت أعلم أن المدينة ستدمر تمامًا، إذ كنت أرصد المعلومات والرسائل السرية التى يرسلها الإرهابيون وتقع فى أيدى المسئولين الأمنيين، جميعها تشير إلى جحيم منتظر فى الموصل، فالذين هربوا من الفلوجة ليلًا فى صحراء الأنبار تحصنوا فى الموصل، وهم الفئة الأكثر فتكًا وشراسة، فأبناء الفلوجة معتادون على القتال والتصرف بذكاء.

بالنسبة إلى داعش، فـ الموصل هي عاصمة دولتهم في العراق، فمدينة بهذا الحجم وهذه المكانة ستقصمهم وتهز مكانتهم أمام جنود الدولة الإسلامية ومن بايعهم فى كل الأرض، وستضع أمراء الصف الثانى فى أزمة كبيرة مع الخليفة أبوبكر البغدادي القرشي، وكانت استعدادات الأمير أنور قرداش، أحد أبرز قيادات «داعش» وأكثرهم ذكاء، كبيرة، فقد أعد الكثير من ورشات تصنيع المفخخات وأصبحت تعمل على مدار الساعة منذ بداية أكتوبر من ذلك العام، واتبع مع رجاله تكتيكات هجومية ودفاعية جديدة على القوات العراقية، بمساعدة عدد من جماعة "بوكا"- وتشاع كلمة جماعة بوكا بين صفوف التنظيم على أصدقاء البغدادي الذين كانوا معتقلين معه فى معتقل بوكا خلال الاحتلال الأمريكى.

انتظرتُ سقوط الجانب الأيسر من الموصل، وقررت المشاركة فى المعارك الدامية فى الجانب الأيمن، فسافرت للمشاركة بالفعل، ودخلت حى الخليفة المأمون بالجانب الأيمن رفقة قوات مكافحة الإرهاب، المعروفة بـ"الفرقة الذهبية"، وكان قتالًا عنيفًا بين الشوارع والأزقة الضيقة، تكبدت القوات العراقية خسائر فادحة، واستحدث إرهابيو داعش طرقًا معقدة فى مهاجمة القوات العراقية، إذ حفروا الأنفاق الصغيرة فى الشوارع لمهاجمة القوات الأمنية من الخلف، كما نشروا سيارات مفخخة يقودها انتحاريون من كل الجوانب لمهاجمة القوات والآليات العسكرية، فى أغلب أحياء الموصل تقريبًا، وكان أبرز الأحياء التى شهدت هجمات انتحارية حى السماح بالجانب الأيمن.

تبدو معركة الموصل كمعركة ستالينجراد- التى اندلعت بيت الجيش النازى والقوات السوفيتية خلال الحرب العالمية الثانية- فكانت بالنسبة للطرفين معركة حياة أو موت، قدموا الكثير من التضحيات مع أكثر من 20 ألف طلعة جوية، ما أضاع الكثير فى الدمار والخسائر البشرية، لكن برهنت هذه المعركة على سوء سمعة تنظيم داعش واستهتاره بحياة الأبرياء بل وحياة مقاتليه أيضًا، إذ كان كل ما يهمه هو تكبد القوات العراقية الخسائر ولم يترك لجنوده فرص الانسحاب من كل المواقع.

كل هذا ناقشته مع قائد قوات مكافحة الإرهاب، الفريق عبدالغني الأسدي، من داخل غرفة العمليات فى الجانب الأيمن من الموصل، بل إنه حتى التكتيكات الهجومية الانتحارية التي استحدثها تنظيم داعش ناقشتها قبل حتى التوجه للجبهة كإجراء سلامة للحفاظ على حياتي من خلال معرفة التكتيكات المستخدمة فى الحرب، كان الرجل وقتها متحمسًا للحلول التي يقدمها الجيش العراقى وقواته، فكان قضم الأرض حلًا للسيارات المفخخة، وقناصة السماء هم من يتولون طائرات «الدرون» الصغيرة التى استخدمها داعش فى حمل القنابل الصغيرة واستهداف الآليات العسكرية، وغيرها من حلول للمشكلات العسكرية شديدة التعقيد، أتذكر وقتها قال الرجل: "ستنتهي الحرب وتدرّس هذه المعارك فى الكليات العسكرية، وهذه الملحمة ستنتج عنها الأفلام وتخلدها"، وكان صادقًا.