رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد الباز يكتب: خُدَّام المال والسلطة في الإعلام.. التركة المنفلتة «4»

جريدة الدستور

- نظام مبارك أفسد الصحافة بإدخال البوابين والقهوجية ومبيضى المحارة وتجار البسبوسة إليها
- رجل أعمال شهير يمتلك الآن فضائية يرى أن الإعلاميين مجموعة من الكلاب النابحة يجب إلقاء قطعة لحم لهم لإسكاتهم
- يسرى فودة نشر مستندات مزعومة عن علاقة حازم عبدالعظيم بشركات إسرائيلية بأوامر من ساويرس
- عبدالله كمال كان لسان نظام مبارك الطويل والحاد والفاضح والكاشف الذى يهيل التراب على جميع المعارضين
- صلاح دياب استخدم كمال فى كتابة مقال «نيوتن» رغم أنه لم يكن يحترمه أو يقدره


لم يكن رجال الأعمال وأباطرة البيزنس وحدهم من حاولوا إدخال الإعلاميين المصريين إلى حظيرتهم الكبيرة، وبذر الأموال فى طريقهم، كى يكونوا كالعجينة الطرية فى أيديهم، السلطة السياسية، بأجهزتها المختلفة، دأبت على فعل ذلك أيضًا، والمفاجأة أن طريقة التطويع كانت واحدة، الفارق الوحيد أن السلطة كانت قادرة على حماية رجالها، بينما رجال الأعمال لم يفعلوا ذلك طوال الوقت. 

اتفق رجال الأعمال والسلطة على أشياء كثيرة فيما يخص الإعلاميين الذين يتعاملون معهم، منها أن كل ما يريده رجال الأعمال ورجال السلطة من الإعلاميين هو لسانهم، ولم يكن غريبًا أن يضعوا لهذا اللسان مواصفات خاصة جدًا تليق بهم وتحقق لهم ما يريدون. 

وقد تتعجب أن الرئيس الأسبق حسنى مبارك عندما سأله أحد المقربين منه عن حبه للكاتب الصحفى سمير رجب أكثر من إعجابه بإبراهيم نافع وإبراهيم سعدة ومكرم محمد أحمد، رد مبارك بما يمكن أن نتعامل معه على أنه فلسفة للسلطة فى التعامل مع الصحفيين. 

قال مبارك: سمير رجب راجل واضح وصريح لا يلف ولا يدور، يعنى مثلًا لو هاجم الصحفيون فؤاد سراج الدين (كان وقتها رئيسًا لحزب الوفد) هتلاقى نافع وسعدة ومكرم يبدأوا بمقدمات طويلة جدًا عن احترامهم الشديد للباشا صاحب التاريخ الكبير، ثم بعد ذلك يهاجمونه، لكن سمير رجب يدخل فى الموضوع مباشرة، يهاجمه دون مقدمات. 

رجال الأعمال لا يريدون من الإعلاميين أيضًا إلا لسانهم ولا يقبلون منهم تراجعًا ولا ترددًا فى تنفيذ ما يخططون له من الهجوم على خصومهم والنيل منهم وتشويه صورتهم. 

بعض الإعلاميين يحاولون أن يظهروا فى صورة المهنيين الموضوعيين المحايدين، الذين يتحدثون مع جميع الأطراف، رغم أنهم فى النهاية لا يقودون الحديث إلا للغاية التى تُرضى مَنْ بأيديهم أمر إعاشتهم وإقامة حياتهم. 

بعد ثورة يناير تم ترشيح حازم عبدالعظيم وزيرًا للاتصالات- دع جانبًا أن حازم بعد ذلك ضل وأضل، لكنه كان من الوجوه التى فرضت نفسها على الساحة السياسية بفعل مشاركته فى أحداث ٢٠١١- لكن هذا الترشيح أزعج كثيرين من رجال الأعمال، ومن بينهم نجيب ساويرس. 

ليلة الترشيح، وقبل أن يتوجه حازم ليحلف اليمين، وكان هذا فى يوليو ٢٠١١، كان يسرى فودة يطل من على شاشة «أون تى فى» متحدثًا فى برنامجه «آخر كلام»، اتصل نجيب بفريق إعداد البرنامج وطلب منهم أن يستعرض يسرى الأوراق التى تسربت عبر الصحف وتوثق علاقات حازم بشركات إسرائيلية، سبق أن نشرتها جريدة «اليوم السابع» تحديدًا فى نفس اليوم. 

فى الفاصل وصلت التعليمات ليسرى، الذى حاول إخراج الموضوع بشكل مهنى على حد زعمه، فطلب من فريق الإعداد أن يتواصلوا مع حازم ليجرى مداخلة تليفونية ليوضح موقفه، وهو يضمر فى نفسه أن يحقق ما يريده نجيب فى النهاية من حرق حازم تمامًا وحرمانه من منصب الوزير المنتظر. 

سجّل حازم الموقف كله على صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»، قال نصًا: «المؤسف أن يسرى فودة سقط مهنيًا، ولا أحب أن أقول أخلاقيًا، لأنه تبنى قصة اليوم السابع بثقة مريبة، والمفروض أنه إعلامى كبير يدقق حفاظًا على سمعته، كما أنه من النادر فى تاريخ يسرى فودة أن يتناول سيرة شخص بهذه الخطورة والسطحية فى نفس الوقت، دون التأكد تمامًا من مصادره، علامة استفهام كبيرة عليك يا يسرى، وقد أكد فى فيديو أن لديه نسخة تثبت هذه التهمة وسينشرها فى اليوم التالى، وطبعًا لم ينشرها، عزائى ليسرى فودة أن جاءه اتصال تليفونى من شخص مهم خدعه أو ربما أجبره، ومنذ فترة طلبت من يسرى الاعتذار أو نشر ما لديه من مستندات، ولكنه استكبر وطرمخ على الموضوع». 

لم يفارق حازم عبدالعظيم الحقيقة عندما قال إن يسرى أجبر على أن يقول ما قال، فقد كانت هذه رغبة نجيب ساويرس، صاحب القناة، الذى لم يكن يسرى يقدر على مخالفة ما يقوله، رغم زعمه الكاذب فى كتابه «آخر كلام»، الذى وثق فيه تجربته فى البرنامج، بأنه لم يكن يخضع لنجيب ساويرس أبدًا، ولم يكن يستمع لما يقوله، وهو أمر يفارق الحقيقة تمامًا. 

لن تكون مفاجأة عندما أقول لك إنه لا رجال الأعمال ولا رجال السلطة يحترمون الإعلاميين، أو يقدرونهم، إنهم ينظرون إليهم على أنهم مجرد أدوات فى أيديهم، يوجهونهم كما يشاءون، ليس عليهم إلا تنفيذ ما يطلب منهم فقط. 

جلس رجل أعمال شهير، يمتلك الآن قناة فضائية شهيرة، على رأس مائدة ضخمة دعا إليها عددًا من أصدقائه رجال الأعمال، بدأ هو حديثًا عن الإعلاميين، وفجأة قال لمن حضر: هل تعرفون ما هو مكان الإعلاميين بالنسبة لنا، إنهم مثل الكلاب النابحة، وأخذ قطعة من اللحم المتراكم أمامه، وقال: لو أعطيناهم قطعة مثل هذه فسينشغلون عنّا فى أكلها، لكن لو منعناها عنهم فلن يكفوا عن النباح. 

رغم قسوة التشبيه، فإن رجل الأعمال لم يفارق واقعًا مؤلمًا، ولو تريدون الحقيقة، سأقول لكم إن ولاء الإعلاميين لمن يدفع لهم، ولا فرق فى هذا بين رجال الأعمال ورجال السلطة، وهى الثنائية التى أفسدت الإعلاميين، وأوصلتنا إلى المنحدر الذى تعيش فيه المهنة. 

فى عام ٢٠٠٥، كانت الدولة قد وصلت إلى قناعة تامة أن الحرس القديم من الإعلاميين قد أدى دوره تمامًا، وعليه أن يستريح، فخرج إبراهيم نافع وإبراهيم سعدة وسمير رجب ومكرم محمد أحمد من مؤسساتهم التى عمّروا فيها لما يقرب من خمسة وعشرين عامًا، وجاء جيل جديد أصغر سنًا وأكثر حيوية ومناسبة كذلك لجمال مبارك (الرئيس المنتظر بزعم وفى وهم الكثيرين) الذى تدخل بنفسه فى اختيارهم. 

كان رأس الحربة فى الكتيبة الجديدة من الصحفيين هو عبدالله كمال، الذى تولى رئاسة تحرير مجلة روزاليوسف، وسرعان ما أعاد إصدار جريدة روزاليوسف اليومية بمباركة صفوت الشريف ودعم كامل من رجل أعمال الحزب الوطنى أحمد عز. 

كان عبدالله يعرف أن المعركة قاسية جدًا، ولا بد لها من لسان يومى، يقف أمام كل من يهاجمون النظام، خاصة أن المعارضة المصرية طورت أدواتها، واستندت إلى جماعات الرفض التى بدأت تتكون فى الشارع مطالبة بالتغيير، وهى الحركات التى وجدت لها سندًا فى صحيفة «المصرى اليوم»، التى صدرت فى عام ٢٠٠٤، بوضوح شديد، وعلى استحياء فى الصحف الخاصة الأخرى. 

قرر عبدالله كمال بموهبته الكبيرة- التى لا يستطيع أحد أن ينكرها عليه حتى لو كان يكرهه- أن يكون لسان النظام الطويل والحاد والفاضح والكاشف، يهيل التراب على كل من يعتقد أنهم خصوم نظامه، متجاوزًا كل الأخلاقيات ومواثيق الشرف الصحفى. 

ميزة عبدالله أنه كان مقتنعًا بما يفعله، ولن نفارق حقيقة ما جرى إذا قلت إنه اختار أن يكون خادمًا للنظام بإرادته الكاملة والحرة. 

عرف النظام أن عبدالله سيدخل معاركه بكل أسلحته، ولا بد من حمايته بشكل كامل، فتم تعيينه عضوًا فى مجلس الشورى ليتمتع بحصانة كاملة تحميه من المطاردات الكثيرة التى لاحقته بسبب كتاباته. 

يقولون إن عبدالله كمال لم يتغير بعد الثورة، وإنه ظل على ولائه لنظام مبارك، ولم يوجه شراع سفينته تجاه الريح الجديد، وهو ما جعله ينزوى إعلاميًا وسياسيًا، لكن هذا لم يكن صحيحًا بنسبة مائة فى المائة. 

قد يكون تمسك بولائه لشخص لمبارك وابنه جمال، فقد كان من هؤلاء الذين يدينون بالولاء للأشخاص وليس للأفكار أو الأوطان، لكنه ألقى بنفسه فى أحضان من كان ينتقدهم قبل ذلك، وتعامل معهم على أنهم يريدون إفساد الحياة السياسية والإعلامية، وتحديدًا جريدة «المصرى اليوم» وصاحبها رجل الأعمال صلاح دياب. 

شنّ عبدالله كمال حملة صحفية طاغية على صلاح دياب- من وجهة نظرى أنها كانت حملة مستحقة تمامًا- لأن صلاح يمثل صيغة مريبة فى علاقة السلطة بالإعلام فى مصر، وهى علاقة يمكننا أن نفض غشاء بكارتها فى سياق حديثنا عمّن أوصلوا الإعلام المصرى إلى القاع، تمهيدًا لعرض رؤيتنا لإصلاحه، لكن هذا حديث سيأتى فى وقته. 

لم يترك عبدالله كمال فى جدار صلاح دياب طوبة على طوبة، أراد أن يحطم الرجل ماديًا ومعنويًا، ومن بين ما كان يفعله به الحديث عن ثروته. 

من بين ما أثبته عبدالله على صلاح دياب تعليقه للوحات فن تشكيلى عالمية يصل سعرها إلى ملايين الدولارات فى حمام قصره، وعندما تعجب البعض من دخول عبدالله إلى حياة صلاح دياب بهذه الطريقة، عرفنا أن رجل الأعمال كان قد دعا الكاتب الصحفى الكبير عمرو عبدالسميع على الغداء فى منزله، وأثناء وجود عمرو طلب أن يدخل الحمام، وأثناء وجوده فيه هاله ما رأى، فقد وجد نفسه أمام متحف، حكى عمرو لعبدالله ما رأى بحكم الصداقة، فإذا بالكاتب يحول الموقف إلى مطعن يدخل من خلاله إلى خصمه اللدود. 

بعد الثورة بشهور وجد قراء «المصرى اليوم» أن لغة وأسلوب الكاتب، الذى ينشر تحت اسم مستعار هو «نيوتن»، فى تطور واضح، اللغة مستقيمة والأسلوب جذاب والأفكار واضحة وجريئة ومقتحمة، كان الوسط الصحفى كله يعرف أن «نيوتن» هو صلاح دياب نفسه، وقد ابتدع صيغة المقال ليقول فيه ما يريد من نقد للدولة وتصفية لحسابات مع خصوم ومجاملة لأصدقاء وتوجيه رسائل إلى السلطة. 

كانت المفاجأة أن عبدالله كمال، الخصم اللدود لصلاح دياب، هو الذى كان يكتب مقالات «نيوتن» فى فترة امتدت لما يزيد على عامين، وقد جمع محبو عبدالله كمال هذه المقالات فى كتاب فى ذكرى رحيله، وتفاخروا بها، رغم أنه كان من الأولى بهم أن يخفوها تمامًا. 

صلاح دياب وفى جلسة مع أحد أصدقائه أفصح عن اتفاقه مع عبدالله كمال، قال إنه لم يكن يحترمه ولا يقدره، ولكن لمراعاة ظروفه المادية عقد صفقة معه لأنه محترف ويقدر على ما لا يقدر عليه غيره، ليكتب هو المقالات، ولم ينس صلاح أن يؤكد أنه كان صاحب أفكار المقالات وواضع خطوطها العريضة، ولم يكن لعبدالله دور إلا الصياغة فقط. 

قد تلتمس العذر لعبدالله كمال فيما فعله، فهو لم يقدم عليه إلا من أجل الظروف الصعبة التى كان يمر بها، فقد زالت عنه أموال السلطة الكثيرة، وتلاشت حمايتها القانونية، لكن ما لا يمكن أن تقبله أبدًا هو أن يضع يده فى يد الرجل الذى طعنه طعنات كثيرة، وكان يريد أن يقضى عليه تمامًا. 

ستقول لى إن عبدالله كمال الآن فى ذمة الله، ولن يستطيع الدفاع عن نفسه، سأقول لك إن هناك كثيرين ممن يعتبرون أنفسهم «تلاميذ فى مدرسته»، ويستطيعون ببساطة أن يردوا بالنيابة عنه، ولن أتردد فى نشر تعليقاتهم وتعقيباتهم. 

ولأن ذهب السلطة يُغرى، فقد حاول صحفيون كثيرون من جيل عبدالله كمال مزاحمته ليفوزوا هم بجمال مبارك، ولأن عبدالله كان يسد الطريق على الآخرين، فقد حاولوا تقديم أنفسهم عن طريق المقالات التى ينشرونها فى صحفهم، أحدهم حاول تشويه عبدالله ووصفه بمؤخرة النظام، وأحدهم حاول نصح النظام بأن عبدالله يحرقه فى الشارع بما يكتبه، وإذا كان النظام فى حاجة لمن يدافع عنه ويُبيض وجهه فى الشارع، فهو موجود ومستعد، لكنّ أحدًا لم يلتفت إليه. 

المقال الأبرز فى هذه المعركة كتبه الصحفى الكبير مجدى الجلاد، ويمكن أن تصل إليه بسهولة- المقال وليس مجدى- إذا كتبت على محرك البحث جوجل «الحياة على أكتاف جمال مبارك».. وفيه طالب مجدى بمنح جمال مبارك فرصة لأنه يمتلك رؤية اقتصادية واضحة، عاب مجدى على جمال استعانته بمن يسيئون إليه وإلى تجربته، قاصدًا بذلك عبدالله كمال، ومقدمًا لنفسه فى ذات الوقت بأنه يمكن أن يكون عرابًا إعلاميًا جيدًا فى الوقت نفسه.
السلطة لم تكن تمنح الحماية فقط، ولكنها كانت تملك المال أيضًا، وهو ما يظهر بوضوح فى جريدة روزاليوسف اليومية، التى كانت تصدر عددًا شهريًا تتجاوز صفحاته الـ١٠٠ صفحة، وكانت الإعلانات التى تنشر فيه تتجاوز حجم الإعلانات التى تنشر فى كل الصحف المصرية مجتمعة لمدة أسبوع كامل، وكلها إعلانات لشركات ومؤسسات حكومية كان يأتيها الأمر المباشر بذلك، هذا غير الدعم المباشر الذى كان يأتيها من رجال أعمال الحزب.
كانت الدولة قادرة على توجيه أموال الإعلانات إلى الصحف التى تريدها، وحجبها عن الصحف التى لا تفضلها.

وجرى أننى وعندما أصدرت جريدة الغد فى مارس ٢٠٠٥- وقتها كان أيمن نور لا يزال فى السجن وبعد خروجه اختلفنا وتركت الجريدة بعد صدور أربعة أعداد منها- أن جاءنا إعلان للصفحة الأخيرة فى العدد الثانى من رجل أعمال شهير، كان واحدًا من أساطين الحزب الوطنى، وكان المعلن يريد أن يجامل صديقه أيمن الذى يجاوره فى مجلس الشعب.

بعد أن صدرت الجريدة وجدت إعلانًا صغيرًا فى الصحف الحكومية من رجل الأعمال الشهير يتبرأ فيه من الإعلان، وأنه لم يقدم إعلانات إلى جريدة الغد، ولكن الجريدة هى التى بادرت بنشر الإعلان من نفسها مجاملة من أيمن لصديقه، وكانت الحقيقة أن رجل الأعمال فعل ذلك من باب حفظ ماء الوجه مع النظام الذى غضب بشدة من مساعدة رجلها لمن يقدم نفسه على أنه بديل لمبارك، لكن والشهادة لله أن رجل الأعمال التزم فى السر بتسديد ثمن الإعلان كاملًا، وبالغ فى كرمه، إذ رأيت بنفسى شيكًا بـ١٠٠ ألف جنيه منه للجريدة، رغم أن ثمن الإعلان وقتها لم يكن ليتجاوز ٣٠ ألف جنيه. 

ملأ رجال الأعمال أعين الإعلاميين إذن بالمال الكثير، وملأ النظام أعينهم بالمال والحماية، ولذلك كنت- ولا يزال الوضع قائمًا- تجد منافسة شديدة بين الإعلاميين للفوز برضا رجال الأعمال أو رجال السلطة أيهما أقرب. 

والغريب أن السلطة التى كانت تستعين بالصحفيين خططت فى الوقت نفسه لضرب قيمة الصحفيين والحَط من كرامتهم، وكانت فكرتهم فى ذلك أن تجعل الإعلاميين والصحفيين تحت رحمتها، فهى لا تحميهم من خصومهم فى عالم السلطة والبيزنس فقط، ولكنها تحميهم من الرأى العام أيضًا الذى يريد أن يفتك بهم بسبب ما تقترفه أيديهم. 

كانت الخطة موضوعة بإحكام شديدة، أشرف على إعدادها وتنفيذها وزير الإعلام صفوت الشريف، وكانت نقطة الصفر فيها فى عام ١٩٩٥، كانت الحكومة قد تقدمت إلى البرلمان بقانون ٩٣ لسنة ١٩٩٥ الذى ينظم العمل الصحفى، وهو القانون الذى غلظت فيه العقوبات الصحفية سجنًا وغرامة. 

وقفت الجماعة الصحفية ضد القانون حتى أجهضته، ولم يكن الإجهاض سلميًا، فقد أهانت الجماعة الصحفية نظام مبارك، عندما أعلت من كلمة هيكل التى وجهها للصحفيين فى جمعيتهم العمومية التى اعترضت على قانون النظام، وقال فيها إن هذا القانون يعبر عن أزمة سلطة شاخت فى مواقعها.

استبدلت السلطة قانون ٩٣ لسنة ١٩٩٥، بقانون ٩٦ لسنة ١٩٩٦، حتى تفوّت غضبة الصحفيين، وبدأت فى الانتقام.

رأى صفوت الشريف أن الصحفيين يعتزون بكرامتهم، فقرر «بعترتها»، ففتح الباب أمام ما أطلقنا عليه الصحف القبرصية، ومنح للجميع الحق فى امتلاكها ونشر ما يشاءون فيها، وكانت هذه الصحف هى التى أشعلت النار فى المهنة، فدخلها البوابون والقهوجية ومبيضو المحارة وتجار البسبوسة مع الاحترام للجميع. 

كانت فكرة صفوت الشريف الجهنمية أن يضرب المهنة فى قلبها، كان يعرف أن هؤلاء عندما يدخلون المهنة سيتحولون إلى مبتزين، لن يقدموا عملًا صحفيًا له قيمة، ولأنهم أبناء سوق فمن السهل عليهم أن يتصدروا الساحة، ويصبحوا هم الصحفيون بالنسبة للرأى العام، وأعتقد أن هذا ما حدث تمامًا، فمنذ هذا الحين والصحفيون لا يقدرون على رفع رءوسهم أبدًا، فقد مرغ صفوت رءوسهم فى الوحل. 

أصبح الصحفى فى نظر المجتمع ليس قائد رأى، ومسئولًا عن تكوين وجدان المجتمع، ولكنه أصبح صحفى شنطة وسبوباتى ومفبركاتى للأخبار، بل أصبح باحثًا عن المال عن طريق الابتزاز للجميع، وعن طريق نشر الموضوعات العارية والحوادث الجنسية والصور العارية حتى يحقق هدفه وليذهب الجميع بعدها إلى الجحيم، وللأسف الشديد لم يسلم أحد من هذه الصورة.
هل تريدون ما هو أكثر، لقد ترك صفوت الشريف الباب أمام صحف بعينها لتفبرك موضوعات تخص رئيس الجمهورية، فعلت ذلك جريدة النبأ التى نشرت حوارًا مجمعًا مع رئيس الجمهورية ونسبت إليه تصريحات لم يقلها، ومع ذلك لم يعاقب أحد الجريدة ولم يسألها حتى، فقد كانوا يتحججون بما تفعله صحيفة النبأ وشقيقاتها ليضربوا الصحف الجادة ويشوهوا صورتها. 

لقد خرج الصحفيون من عصر مبارك مشوهين تمامًا وغير قادرين على أن «يصلبوا طولهم» من الأساس، ولذلك تاهوا ولم يعثروا على بوصلتهم، وقد حاولوا أن يعوضوا ذلك بادعاء البطولة بأنهم من صنعوا الثورة، ليس يناير فقط ولكن يونيو ً.. وهذا حديث آخر.