رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفتوى ديوان المجتمع وخزنة أسرار الحياة

جريدة الدستور

لا تخلو الفتوى من أهمية ولا يخلو منها مكان ولا زمان، فالعمل عليها وعلى رعايتها وتجديدها فرض عين على جموع المسلمين عامة والمجامع الفقهية ومؤسسات الإفتاء بصفة خاصة.

لقد شاركتُ في ثلاثة مؤتمرات عن الفتوى في السنوات الثلاث الماضية، إذ نظمت الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، تحت مظلة دار الإفتاء المصرية بكتيبتها الإعلامية، عددًا من المؤتمرات في سنوات 2015 و2016 و2017، حمل عنوان المؤتمر الأول: «الفتوى.. إشكاليات الواقع وآفاق المستقبل»، والمؤتمر الثاني: «التكوين العلمي والتأهيل الإفتائي لأئمة المساجد للأقليات المسلمة»، والمؤتمر الثالث كان العام الماضي، وجاء بعنوان: «دور الفتوى في استقرار المجتمعات»، وهذا العام يأتي عنوان المؤتمر الجديد: «التجديد في الفتوى.. بين النظرية والتطبيق» وسيعقد في منتصف أكتوبر المقبل.

ولعل مؤتمر التجديد في الفتوى يهدف في دورته هذا العام إلى الخوض في غمار قضايا تجديد الخطاب الديني، والتي منها تجديد الخطاب الإفتائي، وأرى أن هذا الجهد يُحسب لدار الإفتاء لأن الخطاب الإفتائي كان بحاجة ماسة لتجديد وتفكيك القضايا المتعلقة به، لأن التيارات المتطرفة دأبت على استخدام الفتاوى في شرعنة وتبرير أعمال العنف التي تستحل بها الأراضي والدماء والأعراض.

والناظر إلى سجل مؤتمرات الإفتاء يجد أنها معنية منذ البداية بقضايا التجديد في الفتوى على مدار مؤتمراتها الثلاثة السابقة، وأن قضية التجديد في الفتوى ليست وليدة مؤتمر هذا العام، فقد اعتدنا من فضيلة الأستاذ الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، ورئيس الأمانة العامة للإفتاء، ومستشاره الدكتور إبراهيم نجم، الأمين العام، أنهما يواكبان المستجدات.

ولقد عملا منذ البداية على مواجهة الأفكار المتشددة والمتطرفة بصورة علمية وعملية، عندما أنشآ مرصدًا لعلاج ظاهرة التطرف والإرهاب، فقد اعتدنا منهما التغريد خارج السرب خاصة في معالجة القضايا الدينية.

وإذ ما ذهبنا إلى دراسة الفتاوى لوجدنا أنها تمثل سجلًا مفصلًا لحياة المجتمع في كل عصر، وهي منجم غني لدراسة حياة الناس والمجتمعات، بما يجعلها ترتقي إلى مصاف المصادر التقليدية للتاريخ، لا بل إنها تتفوق عليها أحيانًا، لأنها تنقل لنا صورة عن معاملات الناس وتعاقدهم وتفاعل حياتهم اليومية وفق ما تحكم به الشريعة.

ويعد أول من كتب في هذا المجال المستشرق جان سوفاجيه Jean Sauvaget، في كتابه المنهجي «مدخل لتاريخ المشرق الإسلامي»، الصادر عام 1943، فسوفاجيه، وإنْ كان قد أشار إلى أن كتب النوازل ومجاميع الفتاوى مصادر تمكن مطالعتُها في دراسة مصادر التاريخ خاصة التاريخ الإسلامي، غير أنه حذّر من الاعتماد الكلي على مجاميع الفتاوى كمصدر من مصادر التاريخ الاجتماعي والاقتصادي بشكل كامل.

أما الاهتمام بالفتاوي أو ما يطلق عليها أهل المغرب بالنوازل- وعلى رأسها نوازل الونشريسي- كمصدر للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي، فتطور كثيرًا بين عقدي السبعينيات والثمانينيات، ويشار هنا إلى الرسالة الجامعية «النوازل والمجتمع»، التي أعدَّها عمر بنميرة بكلية الآداب جامعة محمد الخامس، الرباط، 1989م، ودراسة محمد مزين «حصيلة استعمال كتب النوازل الفقهية في الكتابة التاريخية المغربية»، التي نشرت في كتاب «البحث في تاريخ المغرب، حصيلة وتقويم»، الصادر ضمن منشورات كلية الآداب بالرباط، عام 1989م.

وفي عقد التسعينيات من القرن الماضي، ظهرت دراسة محمد فتحية، بعنوان «النوازل الفقهية والمجتمع»، وهي من منشورات كلية الآداب بالدار البيضاء عام 1999م.. وتطورت دراسة الفتاوى أكثر مع بداية القرن الحالي، ونشير هنا إلى أعمال ندوة «الدول والنوازل الفقهية وأثرها في الفتوى والاجتهاد»، وهي من منشورات كلية الآداب في الدار البيضاء 2001م، ولا نُغفل دراسة إبراهيم القادري بوتشيش «النوازل الفقهية وكتب المناقب والعقود العدلية»، التي عدها مصادر عامة لدراسة تاريخ الفئات العامة بالغرب الإسلامي، وصدرت في مجلة التاريخ، العدد 22، لعام 2002م كما أشار الباحث والمؤرخ مهند مبيضين في دراساته.

ومن الدراسات الحديثة التي تناولت تأثيرات الفتاوى في المجال العام، دراسة بعنوان "النخبة العلمية المصرية.. التكوين- الدور- المصير 1805ـ 1975" للدكتور أحمد محمود عبدالجواد، وتناول امتداد فتاوي الفقهاء إلى مجال الطب العلمي مثل الطاعون ورفض التداوي ما أدى لفناء عدد كبير من المصريين.

المهم في علاقة الفتوى والتاريخ، التنبيه على أن الأسئلة تتضمن بعدًا معرفيًا في سياق البحث عن العلاقة بين المعرفة والسلطة أو الفقيه والسلطان، وهو ما نحتاجه ونحتاج أن نتعمق فيه في المرحلة المقبلة.

فالتجديد في المجال الإفتائي يحتاج منا لتصور عميق ورؤية شاملة للمجتمع ومجالات العلوم المختلفة، لنخرج بتصورات حية ومحورية تجعلنا نستوعب آليات العصر الذي نعيش فيه بكل قوة.

وفي النهاية، يداهمنا تساؤل مهم: هل يستطيع مؤتمر "التجديد في الفتوى بين النظرية والتطبيق"، الذي ستعقده الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم ودار الإفتاء المصرية، منتصف أكتوبر القادم، تحقيق معادلة التجديد في الفتوى والذهاب بها إلى مواكبة الأحداث والمستجدات؟.