رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل تُقدر التنظيمات الإرهابية «العلميون»؟

جريدة الدستور

منذ أكثر من عشرة سنوات، بدأ مجموعة من الشباب الذي كان يقبع داخل السجون، في وضع أفكار جديدة مرتبة لشكل العمل "الجهادي"، في الفترة المقبلة، وذلك لتعويض الخسائر التي تلقتها التنظيمات الإرهابية خلال مطلع القرن الماضي، وكان من ضمن الأسباب أن من تصدر التنظيمات لا يحملون مؤهلات دراسية وعلمية تتيح لهم ذلك.

بالفعل شهدت السنوات الماضية غزو من قبل التنظيمات الإرهابية للكليات العلمية وبعض المناطق التي يتواجد فيها الشباب الملتحق بالكليات العلمية، ولعل ما حدث في عملية 11 سبتمبر الذي قامت بها "القاعدة"، حيث قام المنافذون بتصنيع السلاح والقنابل ووضع العديد من الامكانيات والتضاريس للتنظيم قبل تنفيذ عملية ما، وهذه العملية تكشف مدى أهمية "المتعلمون" داخل الغرف المغلقة لتنفيذ العمليات، فأبطال هذه العملية هم خالد شيخ محمد العقل المدبر لهجمات وهو مهندس ميكانيكا متخرج من جامعة نورث كارولينا في أمريكا، ومحمد عطا قائد مجموعة الحادي عشر من سبتمبر، وكان يدرس هندسة معمارية في جامعة هامبورج.

ليأخذ فيما بعد تنظيم داعش الإرهابي، العقلية الجديدة وقام بتطويرها، أوضحت ذلك في بيان للقيادة الأمريكية في منتصف العام الماضي، الذي اعتبرت أن قتلها لـ"أبو مالك" - أحد قيادات داعش- في إحدى الغارات الجوية التي شنتها قوات التحالف قرب الموصل بالعراق سيحدث شللا مؤقتا في صفوف التنظيم، لما يحتله أبو مالك من مكانة بينهم، حيث كان خبيرا للأسلحة الكيماوية، وقد أهلته خبرته للعمل في هذا المجال، حيث عمل مهندسا للأسلحة الكيماوية خلال حكم صدام حسين، ثم انضم لتنظيم القاعدة في العراق عام 2005.



 علاقة «الهندسة» بالإرهاب

في هذا الصدد صدر كتاب بعنوان "مهندسو الجهاد: العلاقة بين التطرف العنيف والتعليم"، وهو من تأليف كل من "دييجو جامبيتا" Diego Gambetta، أستاذ علم الاجتماع في معهد الجامعة الأوروبية بفلورنسا، وحاصل على الدكتوراه في العلوم الاجتماعية والسياسية من جامعة كامبريدج البريطانية، وعمل أستاذًا زائرًا بجامعة شيكاغو، و"ستيفين هيرتوج" Steffen Hertog، أستاذ مشارك في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.

ويتناول الكتاب علاقة تخصص الهندسة بالانضمام للجماعات المتطرفة سواء في البلدان الإسلامية أو الغرب، محاولًا تقديم تفسير لما يمكن تسميته ظاهرة "تطرف المهندسين" ووجود عدد كبير من المهندسين في الجماعات المتطرفة العنيفة، فضلًا عن تسليط الضوء على التطرف المرتبط بالأيدولوجيا.

وعرض الكتاب عدة نتائج رئيسة، لعل أبرزها أن نسبة كبيرة من المتطرفين الإسلاميين هم جامعيون ذوو خلفية هندسية، وأن انتشار المهندسين المتطرفين في بعض الدول الإسلامية مرده الإحباط والحرمان النسبي، وبالتالي فإن وجود التنمية والفرص الوظيفية من العوامل المساعدة على الحصانة ضد التطرف. كذلك، فإن العوامل المشتركة التي تربط بين المهندسين والتيار اليميني أكبر من نظيرتها بين المهندسين وتيار اليسار الراديكالي.

يعتمد الكتاب بشكل أساسي، في بحث العلاقة بين التطرف والتعليم في بعض البدان الإسلامية، على دراسة عينة مكونة من (497) شخصًا من الجماعات المتطرفة، وذلك استنادًا إلى مصادر متنوعة؛ منها كتابات أكاديمية، ووثائق حكومية، بالإضافة إلى مسح يومي شامل للصحف الدولية وفي الشرق الأوسط خلال الفترة من عام 2004 حتى عام 2010.

ويبرز معدو الكتاب أن هناك بيانات تعليمية متوفرة لعدد (335) من إجمالي العينة محل الدراسة، وأنه بالاطلاع على ملفاتهم، وجدوا أن الغالبية منهم قد أتموا التعليم العالي أو مازالوا فيه وعددهم يبلغ (231) فردًا أي بنسبة حوالي (%69) من العينة. وفيما يتعلق بطبيعة التخصص العلمي، هناك بيانات توفرت لعدد (207) أفراد، وُجد أن منهم (93) تخصصوا في الهندسة، بينما حوالي (38) شخص كانت تخصصاتهم في الدراسات الإسلامية، في حين أن الأعداد الأقل كانت في تخصصات أخرى، كالتالي: عدد (21) تخصصوا في الطب، و(12) في الاقتصاد، و(8) في الرياضيات والعلوم، و(5) في القانون، والبقيّة من تخصصات أخرى متنوعة.

وحسب النتائج التي تضمنها الكتاب، فإنه من بين (93) خريج هندسة متطرفًا، هناك (38) منهم قيادات في الجماعات المتطرفة؛ أي بنسبة حوالي (%41).

ويضيف الكتاب أن ثمة مؤشرات قوية على وجود علاقة بين التطرف ودراسة الهندسة، وهو أمر لا يقتصر على الوقت الراهن، ولكنه يمتد إلى عقود مضت، وضرب أمثلة عديدة على ذلك، منها أن مُنفذي هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة كان من بينهم ثمانية مهندسين. كذلك ظهرت في مصر، خلال سبعينيات القرن الماضي، مجموعة متطرفة تسمى "جماعة التكفير والهجرة" بقيادة "شكري مصطفى"، وكان مهندسًا زراعيًا.

وفيما يتعلق بعدد المتطرفين المنتمين لبعض الدول العربية، وفق العينة الكاملة للدراسة البالغ عددها (497)، فإن فلسطين جاءت في المرتبة الأولى بعدد (128) شخصًا، وبعدها مصر بعدد (88) شخصًا. كما يشير الكتاب إلى أنه ظهر في المملكة العربية السعودية عدد قليل من المهندسين بين صفوف المتطرفين، وهذا مرده أن المهندسين في المملكة تمتعوا بفرص ممتازة في سوق العمل بفضل قطاعات النفط والغاز والصناعات الثقيلة في البلاد.

من أجل التحقق من العلاقة بين التطرف ودراسة الهندسة في الغرب، تم اختبار عينة مكونة من (344) من المتطرفين الإسلاميين الذين ولدوا ونشأوا في الغرب، بينهم (338) من الذكور، وتشمل العينة أفرادًا تورطوا بالفعل في أعمال متطرفة سواء بحكم من محكمة أو قُتلوا أثناء العمليات الإرهابية أو خططوا لعمليات إرهابية، سواء ناجحة أو تم إحباطها. وتأتي الولايات المتحدة، ثم المملكة المتحدة، وإسبانيا، وفرنسا، على الترتيب كأكثر الدول التي تُمثَّل فيها هذه العينة.

وتم توفير بيانات علمية عن حوالي (122) فقط منهم، وكان (9) منهم أقل من التعليم الثانوي، و(30) أتموا مرحلة التعليم الثانوي فقط، في حين دخل (83) منهم الجامعة أو حصل على الشهادة الجامعية. ووفقًا للنتائج، فإن نحو (%79) من الجامعيين المتطرفين في الغرب جاءوا من كليات مرموقة، والمفارقة أن أغلبهم من التخصصات الهندسية.

ويؤكد الكتاب أن الظروف الاجتماعية ليست كافية بأي حال من الأحوال لتفسير الربط بين التطرف وتخصص الهندسة، حيث أن الغرب يوجد به وضع اقتصادي وفرص أفضل مما عليه الوضع في عدد من البلدان الإسلامية، ومع ذلك يوجد متطرفون في الغرب. ولذا فإنه يمكن اعتبار السمات الشخصية والدوافع والميول النفسية المختلفة هي أيضًا وراء التوجُّه نحو التطرف.

يشير الكتاب إلى أن التطرف لا يرتبط بالدين فقط، ولكنه يرتبط بالأيدولوجيات أيضًا. وفي هذا الصدد، يفترض الباحثان، من خلال ما تم تجميعه من بيانات ومعلومات، أن العوامل المشتركة التي تربط بين المهندسين والتيار اليميني المتطرف أكبر بكثير من العوامل المشتركة بين هذه الفئة والتيار اليساري الراديكالي.



التخصصات العلمية والأفكار الراديكالية

وفي دراسة أخرى أعدتها الدكتورة سمية متولي السيد مدرس مساعد النظم السياسية المقارنة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، نشرت في عام 2014م، قالت إن الاتجاهات المتطرفة تنقسم إلي يمينية ويسارية وإسلامية، إلا أن أغلب المهندسين أكثر ميلا للانخراط في الاتجاهات اليمينية المتطرفة والاتجاهات الإسلامية دون اليسارية؛ وهو ما يمكن تفسيره بأن النظرة التي يتبناها اليمين المتطرف تجاه العالم تتماشى مع تلك التي تتبناها التنظيمات الإسلامية المتطرفة مقارنة بالاتجاهات اليسارية المتطرفة. 

وتابعت: وبشكل عام يمكن القول إن جوهر النسق العقائدي لليمين المتطرف والإسلام المتطرف يتشابهان إلى حد التماهي. فالنسق العقائدي للإسلام المتطرف يرفض التعددية الغربية، وينادي بوجود مجتمع واحد يحكمه "خليفة" إسلامي، تتمايز فيه أدوار المرأة والرجل، المسلم وغير المسلم، القائد والتابعين. ويمكن القول إن هناك عددًا من السمات المشتركة بين الاتجاهين على النحو التالي؛ أولا: (الوحدوية) والتي تختفي في ظلها مساحات الاختلاف والتمايز، ومتى ظهرت الأخيرة تقابل بالرفض القطعي، وتوصم بالخروج على الشرعية. ثانيًا: (التبسيط) أي أن هناك علاجًا واحدًا للظواهر المختلفة، لأن ذلك يرتبط دائمًا بالنظر إلى حركة التاريخ على أنها صراع دائم بين الخير والشر. 

ووفقا لدراسة قامت بها مؤسسة كارنيجي في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد ثبت أن المهندسين هم أكثر الأكاديميين تدينًا على الإطلاق (66.5%)، علاوة على أن 44% ثبت أنهم "متدينون" و"محافظون" في الوقت ذاته، يليهم بعد ذلك الاقتصاديون، ثم الأطباء ودارسو العلوم، والإنسانيات والفنون، ثم القانون وأخيرًا العلوم الاجتماعية، على الترتيب. ويتطابق هذا التوزيع التراتبي مع توزيع ميل التخصصات التعليمية المختلفة إلى تبني الأفكار الراديكالية، وهو ما يؤسس لعلاقة ارتباطية إيجابية بين سمتي التدين والمحافظة التي يتسم بهما المهندسون وبين ميلهم لتبني الفكر الراديكالي المتطرف؛ وهي ذات الخلاصة التي انتهى إليها تحليل العلاقة إحصائيًّا باستخدام الانحدار اللوجستي: ففي مقابل كل فرد متدين ومحافظ يتخصص في العلوم الاجتماعية مثلا، هناك سبعة أفراد متدينين ومحافظين يتخصصون في الهندسة. 

إذن، ما هي المصادر التي تؤثر في تشكيل عقلية دارسي الهندسة -بخلاف دراسة موضوعات الهندسة- وتجعلهم أكثر ميلا لتبني الفكر المتطرف؟. وفي هذا السياق أشارت دراسات سابقة إلى أن دراسة الهندسة تجعل الخريجين أقل قدرة على استيعاب الطبيعة الارتباطية المتداخلة التي تتسم بها العمليات والعلاقات السياسية والاجتماعية، وبالتالي فهم أقل قدرة على التعامل مع العالم المحيط باعتباره نتيجة تفاعلات متزامنة من عمليات معقدة. وفي المقابل، يفترض هؤلاء الطلاب أن كل ما حولهم له طبيعة ميكانيكية "عقلانية" أقرب إلى ما هو عليه الحال في طريقة عمل الماكينات والآلات، بما يجعلهم أكثر تقبلا لفكرة واحدية النظام إلى حد قولبته. أضف إلى ذلك أن طبيعة الدراسة لا تقترب من المعتقدات الدينية بأي شكل من الأشكال، وهو ما يجعل الدارس -على الأقل طوال فترة دراسته، التي تمتد إلى خمس سنوات- غير معرض للوقوف أمام النصوص الدينية والتفكير فيها بشكل نقدي؛ وهو ما ينتج في النهاية شخصًا أكثر تقبلا للنص، وأكثر قابلية للتأثر بالحجج التي تقدمها الجماعات المتطرفة.