رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التابع المستقل.. إفريقيا وتحولات النظام الدولي

يرى البعض أن ما يحدث من مواجهة بين روسيا والغرب على الساحة الأوكرانية، هو أحد تجليات تحول النظام الدولي؛ ليس بالضرورة أن يكون هذا التحول معناه التغيير الجذري في شكل النظام ونظامه الحاكم، مثلما شهد العالم بعد الحرب العالمية الثانية وما تبعها من حرب باردة بين الكتلتين الشرقية والغربية، أدت في النهاية إلى فوز الكتلة الغربية بمبادئها الليبرالية ومؤسساتها الحاكمة.

وكانت إفريقيا ليست بعيدة عن مشهد تشكل النظام الدولي بشكله الحالي، بداية من كون إفريقيا كانت وجهة القوى الاستعمارية الأوروبية على مدار القرون الماضية، بعدما اكتشفتها القوى الاستعمارية الأوروبية في طريقها للهند، لتدخل القارة على طريق التجارة العالمي بين الشرق والغرب، لتتعاظم أهميتها لتصبح جزءًا أصيلًا من سلاسل الإمداد للتجارة العالمية حينها وموردًا هامًا للموارد الطبيعية والأيدي العاملة من العبيد، بما شكّل تطور الاقتصاد الأوروبي على حساب الشعوب الإفريقية التي تم استعبادها واستعمارها.

وبعدما كانت القارة مقسمة لساحات نفوذ بين القوى الغربية، ظلت في تبعيتها هذه بعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وبعد دخول المعسكرين الشرقي والغربي في حرب باردة، وسعي الدول الإفريقية ونضالها من أجل التحرر الوطني، ظلت في انقسامها هذا، لكن تلك المرة دخلت الكتلة الشرقية على الخط مع دخول الصين والاتحاد السوفيتي حينها حلبة التنافس على القارة، ودعمهما لحركات التحرر الوطني، في مواجهة استمرار الاستعمار الفرنسي والبريطاني للقارة.  

ربما يشي المشهد السابق بتبعية وهامشية القارة، التي كانت ساحة للعبة الأمم ومرتع للقاصي والداني، ينهل من مواردها وموقعها للتجارة والاقتصاد العالمي، لكن في جوهر الأمر، كانت للقارة أهمية لا تزال تحظى بها حتى الآن، رغم ما تفقده من قدرة على تعظيم الاستفادة من تلك الأهمية، فكانت القارة وجهه للدول المتصارعة، إما للحصول على مواردها، أو توظيف الكتلة التصويتية الإفريقية في الأمم المتحدة أثناء الحرب الباردة. 

وبعد انتصار الكتلة الغربية بتفكك الاتحاد السوفيتي، يتحدث البعض عن تراجع مكانة إفريقيا دوليًا؛ لكن المتتبع للأمر، يعرف أهمية إفريقيا بالنسبة للنظام الاقتصادي العالمي، رغم تراجع التنافس الدولي عليها خلال تلك الفترة من تحولات النظام الدولي، واقتصار الاهتمام الغربي عليها في كونها ساحة للحرب على الإرهاب في أوائل الألفية، وبقاء الدور الفرنسي في القارة مقتصرًا على الجوانب الأمنية.

لكن تحول هذا المشهد وعادت القارة إلى واجهة التنافس الدولي، مع التغلغل الصيني للقارة ومن ورائها القوى الإقليمية والدولية المتنافسة، حتى عادت القارة ساحة للتنافس الدولي من جديد، وتحول التنافس هذه المرة إلى رغبة في بناء شراكات متوازنة مع القارة، في ضوء علاقات ندية وليست التبعية المعهودة، هذا في ضوء تنامي الرغبات والطموحات الإفريقية الصاعدة إلى تحقيق التنمية والنهضة الإفريقية في ضوء ما وضعه الاتحاد الإفريقي والجماعة الإفريقية من طموحات وآمال إفريقية للتنمية، تبلورت في رؤية الاتحاد الإفريقي للتنمية 2063.

لكن للمفارقة أن أجندة التنمية الإفريقية لا تزال بحاجة إلى بناء الشراكات للتمويل، في ظل عجز القدرات الإفريقية على تمويل التنمية إفريقيًا، بل كانت تلك الشراكات للتمويل أحد أهداف أجندة التنمية ذاتها، ومع الصدمات التي تلقتها القارة جراء جائحة كورونا، وحاجة النظم الصحية الإفريقية والاقتصادات الإفريقية إلى التمويل والدفع من الدول والمنظمات الدولية، تأكدت فرضية استمرار تبعية التنمية الإفريقية، رغم أن الاستقلال الاستراتيجي الإفريقي هو مرتكز ومنطلق التنمية. 

وتظهر تبعية إفريقيا للنظام العالمي، في تبعية هشاشة وتبعية أنظمتها الاقتصادية، التي تعتمد على التمويل والمنح والمساعدات الدولية، وأظهرت أزمة سلاسل الإمداد والانعكاسات الاقتصادية للجائحة مدى ضعف النظم الاقتصادية الإفريقية، فأدت الجائحة إلى تعميق أزمات الأمن الغذائي والصحي، وحاجة الدول والاقتصادات للتمويل وحزم التحفيز الدولية، وهو الأمر الذي لفت الانتباه إلى ضرورة الإسراع في خطط التنمية الاقتصادية الإفريقية.

ومع اجتياح العالم أزمة جديدة تضاف إلى أزمة كورونا، فإن القارة ليست بعيدة عن تبعات الحرب الروسية – الأوكرانية، وليس بالضرورة أن تقتصر التعبات على عوامل السلب فقط، فكما ستتأثر القارة بارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، فإنها في الوقت ذاته ستجني أرباحًا من وراء كونها بديلًا للغاز والنفط الروسي إلى أوروبا، كما أن الاهتمام بسلوك التصويت الإفريقي في مجلس الأمن الدولي، ومطالبة الدول الإفريقية بإدانة السلوك الروسي، ما هو إلا تأكيد على أهمية القارة الاستراتيجية ومركزيتها في النظام الدولي، رغم تبعيتها الاقتصادي. 

وللأسف، هذه مفارقة لصيقة بالقارة على مدار تاريخها، فرغم من تمتلكه من موارد ورغم ما تحوز عليه من ثقل استراتيجي، بما يجعلها تحوز من المكانة الاستراتيجية موقعًا ندًا وليس مركزيًا فقط في النظام الدولي، إلا أن القارة رغم أهميتها تعاني من التبعية والتهميش، وهي المعضلة التي يحاول الأفارقة التخلص منها، لكن لا علاج للمرض دون ملاحظة والاعتراف بالعرض. 

وأول اعتراف بأعراض التبعية والاستغلال الغربي للقارة، هو اعتراف الأجيال الجديدة في القارة بأهمية تحقيق الاستقلال الاستراتيجي للقارة، وأهمية المضيّ قدمًا في تحقيق أهداف التنمية الإفريقية، ولعل أولى الخطوات التي من شأنها إنعاش الاقتصاد الإفريقي واشتداد عود المنطقة هو التكامل الاقتصادي في منطقة التجارة الحرة القارية، رغم ما يواجه هذا الطموح من تحديات قد تبقى لبعض الوقت على حالة التابع المستقل لبعض من الوقت.

  • باحث الشؤون الإفريقي – المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية