رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مدن حلمى سالم العامرة بالمحبة

مثل طفل صغير، تغمره الفرحة حين يرى أحد أقربائه يعبر الطريق، فيجرى ناحيته، أو ينادى عليه دون توقف، ودون هدف سوى التحية، أو التعبير عن الفرح بالرؤية.. أو مثل عجوز هجرته الذكريات، فما إن يمسك بخيط منها حتى ينطلق فى قطار الحكايات دون رغبة فى التوقف، أملًا فى الائتناس بذكريات المحبة، ووجوه الأصدقاء، وحكاياتهم- كان موعدى مع ذلك الكتاب الذى صدر مؤخرًا عن الهيئة العامة للكتاب، بتوقيع الشاعر الكبير حلمى سالم «مدن لها قلوب.. مقاطع من حياة وشعر».. الكتاب الذى استمتعت طوال الأسبوع الماضى بقراءته، وإعادة القراءة، كأننى أقرأ قصيدة جديدة لشاعر لطالما أحببته، وأحببت قصائده، ولا أريد أن أنتهى من سماع صوته وهو يلقيها منتشيًا، سعيدًا بها، وبنا.

والحقيقة أنه كانت، وما زالت، لحلمى سالم محبة لا تضاهيها محبة بين أبناء جيله من شعراء السبعينيات، تمتد إلى الأجيال التالية، ويتسع محيطها لتشمل الكثير من الشعراء والروائيين والكتّاب والصحفيين.. ربما كان سر تلك المحبة أنه رجل كانت الكتابة ومحبة الكتابة والكتاب هى كل حياته، حتى إنك عندما تلقاه تتأكد أنه قصيدة شعر ممتدة تتحرك على قدمين، وتوزع المحبة والابتسام على كل الوجوه، دون قيد أو شرط.

وربما كان هو آخر الشعراء الذين كانت تمتلئ مدرجات الجامعات فى مصر وغيرها للاستماع إليهم، للاستمتاع بقصائده وهو يلقيها كعاشق لا يمكنه التوقف عن الإنشاد.

ورغم معرفتى المسبقة بأن الكتاب هو تجميع لمقالات نشرها حلمى فى مجلة «المصور» بداية من أكتوبر ٢٠١١، إلا أن متعة القراءة لكتابات حلمى سالم النثرية لا ينال منها بالنسبة لى سوى قراءة شعره، على أن ما أفسد هذه المتعة كان هو ذلك الكسل الذى أصاب محرر الكتاب، رغم معرفتى بأنه شاعر جاد، ومجتهد، وذو عزم، لا يدخر جهدًا فى المعرفة والبحث والتوثيق، لكننى لا أعرف، حتى الآن، ما الظروف التى دفعته إلى الاستعجال، وعدم التأنى لدراسة ما هو مقبل عليه بطريقة تليق به، وبالكتاب وكاتبه، ومحبيه وجمهوره.

كان بوسع محرر الكتاب الشاعر أسامة جاد أن يكتب مقدمة يوضح فيها لِمَ اختار ترتيب المقالات بالطريقة التى ظهرت بها فى الكتاب، والتى تنافى ما اختاره حلمى لنشر مقالاته فى المصور؟ فقد أعد أسامة كتابه وفق ترتيب يؤرخ لرحلة حلمى سالم مع الحياة، من قرية الراهب، بريف المنوفية، إلى مدينة شبين الكوم، عاصمة المحافظة، إلى الإسكندرية، فبدت وكأنها مذكرات شخصية، تسير وفق الترتيب الزمنى لأحداثها، ومجرياتها، بينما رتب حلمى مقالاته، التى اختار لها عنوانًا ثابتًا يعارض به عنوان الديوان الأول للشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى، من طرابلس الليبية، إلى صنعاء اليمن، فدمشق السورية بعدها جاءت شبين الكوم والراهب، والإسكندرية، وغيرها، لتكون المقالات أقرب إلى سيرة لتلك المدن التى أراد حلمى أن يرسم ملامحها كمدن عامرة بالقلوب المُحبة للحياة والشعر والأدب، كتب فيها عن الكثير من الأدباء والنقاد، ورجال السياسة، والمجتمع، وكتب فيها عن أصدقاء الطفولة، ورفاق الجامعة، عن الكثيرين من البسطاء والعامة، عن حبيباته الكثيرات، عن أيام الاحتجاز فى عمان الأردن، ورفاق غرفة الحجز من النشطاء والصحفيين والمفكرين والمناضلين، وغيرها الكثير من المواقف، والحكايات التى تؤرخ لتلك القلوب التى أحاطته فى تطوافه بالكثير من المدن العربية. 

أيضًا، كان بوسع أسامة جاد أن يسأل شاعرنا الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى عن التعارض بين كتاب حلمى وديوانه الأول «مدينة بلا قلب»، وأغلب الظن أن محادثة دارت بينه وبين حلمى قبل البدء فى نشر مقالات «المصور»، وأغلب الظن أن حجازى لم يكن ليتردد فى الحكى عن تفاصيلها الدقيقة إن سُئل عنها، والمؤكد أنها تضمنت الكثير من المداعبات التى عُرف بها حلمى سالم، وأنها إن وردت فى مقدمة الكتاب لأضفت متعة كبيرة إلى متعة المكتوب، وأنها كانت لتحسب فى ميزان أسامة الذى يحسب له فى كل الأحوال ما بذل من مجهود فى تحريره الكتاب، وإعادة ترتيب فقراته ومقاطعه بالصورة التى ظهر عليها.

لا أنكر أننى استمتعت بقراءة مقالات حلمى وقد ضمتها دفتا كتاب، لكننى كنت أتمنى على محرره، الشاعر المجتهد، أن يسأل، وأن يستقصى ويعرف، ثم يكتب حصيلته، أن يرى ما كان مقصد الكاتب مما كتب، ويكتب ما مقصده هو مما حرر، لا أن يترك الأمر لمتصيدى الهفوات من أمثالى ليقولوا له أخطأت، بينما هم فى الحقيقة غارقون فى الاستمتاع بما أنجزه.