رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نبيذ الشرق

كنت، وما زلت، من عشاق الشاى، لذلك لفت نظرى فى الفترة الأولى من وجودى فى روسيا أن جميع عبوات الشاى المعروضة للبيع داخل المحلات مطبوع عليها: «مشروب مفيد للقلب»، وحين سألت عن ذلك قيل لى إن الشاى يقوى المناعة ومضاد للأكسدة ويقوم بخفض نسبة السكر فى الدم، وكنت من عشاق الشاى، ليس بسبب فوائده، لكن كما تعشق امرأة لجمالها فلا تخطر لك حسناتها وعيوبها. ومع إقامتى هناك طرقت أسماعى عبارة أخرى يصف الشعب الروسى الشاى بها:

«نبيذ الشرق»، أى أنه السر فى روقان الدماغ والمزاج. ومنذ عام ٢٠١٩ قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة الاحتفال بيوم ٢١ مايو من كل سنة يومًا للشاى العالمى، مما زاد يقينى بأننى قضيت عمرى على نحو سليم، حينما لم تخل لحظة فى حياتى من أكواب الشاى. وتبين إحصائيًا أن الشاى أكثر مشروب يستهلكه العالم بعد الماء مباشرة، وكان ظهور تلك النبتة الجميلة أول الأمر فى جنوب غرب الصين فى القرن الثالث الميلادى، وهناك وثيقة لطبيب صينى يدعى «هوا تو» تؤكد استخدام الشاى فى ذلك الوقت. 

وخلال ثلاثة قرون انتشر الشاى بفضل التجار ودخل مصر من أربعة قرون حتى أصبحت مصر الآن تشغل المركز السابع عالميًا والأول عربيًا فى قائمة الدول مستوردة الشاى. وبخصوص عشق المصريين للشاى فإن ليوسف إدريس قصة جميلة يشير فيها فلاح إلى إبريق الشاى وهو يقول لأخيه: «بزبوز الإبريق ده نزل منه بقرتين وجاموسة»، أى أنه لأجل شرب الشاى باع أبقاره وأحالها إلى سائل، أى إلى «نبيذ الشرق». 

وقد غزا الشاى التاريخ السياسى الوطنى فى مصر حين هددت أمريكا الزعيم عبدالناصر بقطع المعونة عنه بعد عام ١٩٥٦، ولم تكن تزيد على خمسين مليون دولار، فألقى ناصر خطبته الشهيرة التى قال فيها: «اللى سلوكنا مش عاجبه يشرب من البحر.. وإذا كنا النهارده بنشرب شاى سبعة أيام، نشرب خمسة أيام لغاية ما نبنى بلدنا»!.

فى حبسة ١٩٦٨ ضمتنى زنزانة صغيرة فى طرة مع صلاح عيسى وشخصين آخرين، وواجهتنا مشكلة الشاى، ثم تبين لنا أن هناك عدة صغيرة لإعداد الشاى اسمها «التوتو» تشتعل شرائطها الكيروسين، وأنه ما علينا إلا شراء واحدة من الشاويش محمود بثلاث علب دخان، وقد كان، ومن لحظتها أطلق علىّ صلاح عيسى: «ملك الشاى الأعظم» لكى يغرينى بإعداد الشاى طول الحبسة، بينما هو يقلب أفكار الكتب وخواطره فى رأسه!.

شددت الرحال إلى روسيا فيما بعد، وتزوجت من شابة روسية، وأذكر أن بعض أقاربها جاء يزورنا للتهنئة مع باقات الورد وعلب الشيكولاتة، ومثلى مثل أى مصرى أصيل نهضت على الفور لأعد لهم الشاى وتركت زوجتى جالسة معهم. عدت إليهم بعد قليل حاملًا الصينية وعليها أكواب «نبيذ الشرق»، لكنى فوجئت بلون وجه زوجتى يتقلب من أحمر غاضب إلى أصفر مستاء، وسادت الصالة حالة صمت ثم نهض الضيوف ودعونا وانصرفوا. وما أن أغلقت زوجتى باب الشقة خلفهم حتى صرخت فىّ: «ما الذى فعلته هذا؟ لماذا قدمت لهم الشاى؟».

تعجبت وقلت: «واجب الضيافة». لطمت خديها قائلة: «الشاى عندنا فى روسيا لا يأتى إلا فى نهاية الجلسة، لأن معناه الوحيد انصرفوا، لا تمكثوا أكثر من ذلك»!! 

المرة الوحيدة التى دخلت فيها مستشفى فى روسيا كانت بسبب التهاب جدار المعدة، ومكثت فيه سبعة أيام، ومن اللحظة الأولى حذرنى الأطباء من شرب الشاى فى حالتى هذه، لكننى ظللت أتجرع أكواب الشاى دون توقف إلى جانب العلاج، وأنا أقول لهم: «المرض عندى أسهل من الإقلاع عن ذلك النبيذ».