رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«بناء التعليم»: ماراثون تفوز فيه مصر

 

كانت مصر سابقة للعالم كله فى فهم أهمية التعليم، وكانت «بر عنخ» بمعنى «بيت الحياة» هى أول مدرسة ومكتبة فى تاريخ البشرية، وكان طلاب العلم من الأولاد والبنات بيتعلموا فيها اللغة والكتابة، وكمان بيتعلموا الرياضيات والفلك والجغرافيا والطب والفنون، وأما التعليم الأساسى فخُصص له مكان مستقل أطلق عليه اسم «عِت سبا» بمعنى «مكان العلم» يعنى المدرسة، وكلمة «سبا» بالمصرية القديمة تعنى كمان النجم، واشتق منها كلمة «سباو» بمعنى المعلم.

وعرفت مصر كمان المدارس المهنية، ومدارس لتعليم العلوم العسكرية بما فيها من تدريبات على فنون القتال واستعمال السلاح وكانت ملحقة بالجيش.

كان التعليم فى مصر القديمة يتم على ٣ مراحل، أولاها من عمر ٤ إلى ١٠ سنوات، ودى مرحلة التعليم العام، والمرحلة التانية كانت فى الفترة من١٠ إلى ١٥ سنة وهى مرحلة النسخ، والمرحلة التالتة كانت التعليم العالى وهى اختيارية وكان فيها العديد من العلوم.

وكان التعليم خلال عصور الدولة المصرية القديمة وحتى عصر البطالمة إلزاميًا ومجانيًا، وظلت الطرق القديمة بعد دخول العرب سائدة لحين تأسست جامعة الأزهر سنة٩٧٠ ميلادية، وكانت اللغة العربية والدراسات الدينية والقرآنية هى أساس التعليم، مع القليل من دراسة العلوم خاصة الجبر والفلك.

وخلينا نعرف إن مجانية التعليم مرت بمراحل كثيرة، منذ عهد محمد على، اللى قام بإنشاء أول نظام للتعليم الحديث فى مصر سنة ١٨٢٠، وكانت المجانية فى الوقت ده مقتصرة على أولاد الأعيان، وكان التعليم فى الأزهر مجانيًا للفقراء والمغتربين من الشعوب الإسلامية.

ولكن عند دخول الإنجليز مصر فرضوا المصروفات على التعليم، وفضل ده موجود حتى أقر دستور ١٩٢٣ ضمن مواده، مادة عن التعليم الأوّلى، المادة ١٩ اللى بتقول «التعليم الأولى إلزامى للمصريين بنين وبنات وهو مجانى فى المكاتب العامة».

ثم تولى الدكتور طه حسين سنة ١٩٥٠ وزارة المعارف، واللى أصدر فى سنة ١٩٥١ قرارًا بمجانية التعليم الثانوى، وذلك اتفاقًا مع مقولته «التعليم حق للجميع كالماء والهواء»، حيث نادى أن يكون التعليم حقًا للجميع.

وفى السياق ده، شاهدت منذ أيام حوارًا تليفزيونيًا مع الدكتور طه حسين كان قد تم بثه سنة ١٩٦٩ بمناسبة عيد العلم، سألته المذيعة عن مقولته الخالدة «العلم كالماء والهواء»، وأنه باعتباره صاحب النضال من أجل تحقيق مجانية التعليم، فإن الأشياء دى أصبحت مُتَحققة هذه الأيام فعلًا، وسألته إيه اللى تحب تقوله فى ضوء خبرتك؟

ورد عليها الدكتور طه حسين لتصحح معلومة ظلت ومازالت رغم تصحيحه ده متصدرة وراسخة فى الكتب والأذهان، فقد قال لها الدكتور طه حسين بالنص: أحب أن أسأل الرحمة والرضوان للأستاذ المرحوم نجيب الهلالى الذى كان وزير المعارف وقتًا ما مرتين، وهو أول مَن قرر مجانية التعليم «الابتدائى»، وأنا قررت مجانية التعليم الثانوى والفنى. 

وعودة إلى دستور ١٩٥٦، الذى تضمن بأن التعليم حق للمصريين جميعًا تكفله الدولة بإنشاء مختلف المدارس والمؤسسات الثقافية، وتضمنت المادة ٥٠ بأن الدولة تشرف على التعليم العام فى جميع مراحله المختلفة بمدارس الدولة بالمجان.

وفى سنة ١٩٦١، جعل الرئيس عبدالناصر التعليم الجامعى بالمجان، كحق من حقوق المواطنة، وأتت تعديلات الدستور فى مارس ١٩٦٦ مؤكدة مجانية التعليم، حيث ذكر فى المادة ٣٩ «إشراف الدولة على مراحله المختلفة فى مدارس الدولة وجامعاتها بالمجان».

طيب إيه اللى حصل وجعل مصر خرجت من التصنيف بحسب تقارير التنافسية الدولية وتصنيف التيمز «TIMSS» العالمى فى العام ٢٠١٤-٢٠١٥.

بدأ ذلك خلال حكم الرئيس السادات، ورغم أن المجانية كانت مستمرة، فإن التعليم بدأ فى التدهور، وكان ده لعدة عوامل منها: تشجيع الاستثمار فى التعليم الخاص، وظهور المدارس الخاصة ورفع يد الدولة عنها، وظاهرة الدروس الخصوصية، وقلة عدد المدرسين والأساتذة المؤهلين؛ نتيجة لهجرة الكفاءات التعليمية للعمل فى الأقطار العربية وغيرها، والأهم هو صعود التيارات الإسلامية اللى صبغت المشهد التعليمى بصبغة دينية تجاوزت المظهر والسلوك إلى العملية التعليمية نفسها.

استمر هذا النهج خلال فترة حكم الرئيس مبارك، مع ازدياد التدهور حتى تم إفراغ التعليم من مضمونه، وأصبحت مرتبات الأساتذة من أدنى الأجور، فتم اللجوء إلى الدروس الخصوصية، واللى نتج عنه ازدياد نسب الغياب بعد أن فقد الحضور للمدرسة هدفه، وأسهم بشكل كبير فى كارثة التسرب من التعليم اللى تفشت فى عهد مبارك، وأدى إلى تفاقم الأمية.

خلينا نعرف إنه عند مناقشة أزمة التعليم دائمًا هناك ٣ محاور رئيسية لازم نقيمها للحكم على التجربة وهى: مجانية التعليم، وجودة وكفاءة التعليم، وعلاقة التعليم بسوق العمل.

بوصول الدكتور طارق شوقى للوزارة سنة ٢٠١٧، بدأ عملية «بناء التعليم»، وكان قد شَبَّه نظام التعليم الحالى فى مصر ببناية متهالكة قاربت على الانهيار، ووصفه بـ «جريمة فعلناها فى حقّ أبنائنا»، لأن مشكلات التعليم الأساسية من وجهة نظره تتمثّل فى: الاعتماد على الحفظ والتلقين واعتماد التقييم على اختبارات أساسية مصيرية تجعل الهدف من العمليّة التعليمية اجتياز الاختبار وليس التعلّم. 

عشان كده قال إنّ سياسته مش هتستهدف إنقاذ البناية القديمة، لكن هتبنى بناية جديدة على أسس مختلفة، هى الفهم، والتفكير النقدى، ومحوريّة الطالب، والتطبيق العملى، والإعداد للمستقبل المهنى، واستخدام التكنولوجيا. وده هيكون من خلال آليات وضع مناهج تعليمية جديدة فى كلّ المراحل التعليمية، وإن المناهج الجديدة هتركز على المهارات المطلوبة والمرغوبة فى نهاية العمليّة التعليمية وفقًا للمعايير الدولية فى التقييم وفى التعلّم، وتتضمّن السياسة الجديدة استخدام أدوات حديثة وتفاعلية لتوصيل المعلومات، واعتماد نظام تقييم تراكمى من سنة إلى أخرى مع تغيير طريقة وضع الاختبارات. 

بالإضافة لكل ده، بيتضمّن مشروع «بناء التعليم» أهدافًا مهمة، منها تدريب المدرّسين والقائمين على العملية التعليمية لتنفيذ النظام الجديد، وزيادة عدد المدارس، وتعدُّد مصادر المعرفة المتاحة للتلاميذ زى بنك المعرفة المصرى. 

طيب وبعد ماراثون «بناء التعليم» اللى بتخوضه الدولة، أين موقعنا من المؤشرات العالمية لجودة التعليم؟ بحسب مؤشر المعرفة، كان ترتيب مصر بين ١٣٨ دولة سنة ٢٠١٧ هو المركز ١٠٦، وفى سنة ٢٠١٩ مركزنا هو ٨٢ وقفز ١١ نقطة فى سنة ٢٠٢٠ فأصبح ٧٢، ويوجد مجموعة كبيرة من المؤشرات المهمة والإيجابية خاصة بمنظومة التعليم فى مصر ممكن الإطلاع عليها عبر منصة مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، وكذا على منصات المؤشرات العالمية المختصة.

وأخيرًا، مشروع «بناء التعليم» وراءه جهد كبير مقدر، ويُعدّ من الركائز الأساسية فى بناء جمهوريتنا الجديدة.