رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كل هذا الخيال

لا بد أن المُشاهد الذى يتابع الأعمال الفنية المعروضة على المنصات والفضائيات ودور العرض هذه الأيام يُصاب بالدهشة من مدى جموح وجنوح الخيال وطرافة وطزاجة الأفكار التى تتسم بها كثير من هذه الأعمال، التى يمكن أن تصيب العقل بالحيرة والاضطراب، وقد تترك أثرها المقلق أيضًا فى نفس ووجدان المشاهد أيامًا.

لا جديد تحت الشمس، ربما، فأفكار وقصص الدراما يتم استهلاكها بكل اللغات منذ عدة آلاف من السنين، ومهما حاول المبدعون إطلاق العنان لخيالهم لبنات أفكارهم تأتى هذه البنات على شاكلة أفكار قديمة أبدعها الأجداد والآباء.

ولكن الجديد هو عصرنا، عصر الهاى تكنولوجى والكمبيوتر والإنترنت والهواتف الجوالة والثورة الرقمية التى طالت كل شىء.. وعصر التطور العلمى الذى كشف ما يجرى فى المجرات والكواكب الأخرى، وما يدور فى وحدات الزمن الصغيرة التى لا يدركها العقل البشرى، وهى اكتشافات مذهلة حتى بالنسبة لعقولنا التى تربت فى المدارس والجامعات على أعظم الاكتشافات والاختراعات التى أتى بها العلماء منذ القرن الثامن عشر.

كثير من الأعمال الدرامية الحديثة تعكس العصر الذى نعيش فيه، ولكنه ليس هذا الانعكاس البليد الذى يكتفى بتصوير الواقع، وإنما انعكاس الخيال المبدع الحر المنطلق المجنون المنحرف الذى يفجر هذا الواقع ويكشف ما فيه من إمكانات لا نهائية ومن إيجابيات وسلبيات لا يراها الناس بالعين المجردة.

وحتى أوضح كلامى بأمثلة واضحة أدعو القارئ لمشاهدة أو تذكر بعض هذه الأعمال مثل مسلسل «مستر روبوت»، الذى يلعب بطولته المصرى الأمريكى رامى مالك، وهو، بجانب التشويق والإثارة الهائلين اللذين يحتويهما، درس متكامل فى تقنيات وأسرار الولوج إلى الإنترنت والقرصنة، بطله شاب مراهق يقوم بغزو وتعطيل أنظمة أكبر شركات التكنولوجيا والبيزنس فى العالم وينجح فى إحداث ثورة عالمية.. وقد ابتسمتُ عندما سمعت بتعطل موقع «فيسبوك» خلال الأسبوع الماضى، وتوقعت أن من قام بذلك مراهق صغير من عباقرة الجيل الرقمى، قبل أن يتضح أنه صبى فى الثالثة عشر من العمر، وحتى لو أنكرت «فيسبوك» أنها تعرضت للقرصنة من قِبل صبى صغير، ربما من باب الخجل أو لكى لا تشجع المزيد منهم على مزيد من التخريب!

عمل آخر يصور قدرة هذا الجيل على التفكير بشكل مختلف واستخدام الإنترنت بطريقة مختلفة تتجاوز قدرة الكبار والحكومات والمؤسسات، هو مسلسل «كليكبيت» Clickbait، أو «طعم النقر» وفقًا للترجمة الحرفية، وهو مصطلح حديث يشير إلى الآليات التى يقوم بها «اليوتيوبر» و«الإنفلونسر»، وهذه أيضًا مصطلحات حديثة تشير إلى مستخدمى اليوتيوب وإنستجرام لجذب أكبر عدد من الفولورز واللايكات.. ويبدو أننا سنظل نستخدم مزيدًا من المصطلحات الجديدة إلى ما لا نهاية.. لقد تغيرت اللغة تمامًا، ولم يعد بمقدورنا التفاهم أو التفكير باللغة التقليدية التى كنا نكتب بها، وهذه أيضًا واحدة من مظاهر العصر!

يتناول مسلسل «كليكبيت» قصة تقليدية لاختفاء ومقتل شاب، ولكن الجديد هو أنها تدور بالكامل فى فضاء الإنترنت، ولا تستطيع الشرطة التقليدية، حتى وهى تتزود بالأجهزة الحديثة، أن تقوم بحل أسرارها، بينما تنجح فى ذلك مجموعة من الصبية المراهقين الذين يستخدمون التطبيقات المعروفة بطرق مبتكرة.

فيلم آخر، قديم نسبيًا، بعنوان «البحث» Searching يحمل فكرة أسلوبية مذهلة مستقاة من عالم الإنترنت، وهى أن الفيلم بالكامل، من أول لآخر لقطة، عبارة عن شاشة كمبيوتر، أو بالتحديد مجموعة من شاشات الكمبيوتر التى تعرض صفحات وإيميلات ومقاطع مصورة بكاميرات الكمبيوتر، وهو أيضًا يتناول قصة بوليسية عادية، ولكن بطريقة مبتكرة تنقل للمشاهد حقيقة وطبيعة العالم الذى بتنا نعيش فيه.