رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عودة الروح

تركنا السويس يوم ٦ أكتوبر ١٩٦٩، كان يومًا فاصلًا ما بين حياتين لطفلة لم تغادر ملاعب طفولتها بعد.

كان ذلك وقت العصر، حين كانت الأسرة تبحث عنى وأنا هناك خلف ورشة القطارات، حيث كنا نذهب كل يوم لنلعب فى ذلك المكان «الفاضى» نحن الأطفال الباقون مع أسرهم فى السويس بعد أن تركها أهلها بالتهجير بعد هزيمة يونيو ٦٧، وقد ظللنا نحن وبعض الأسر القليلة لم نغادر لأسباب مختلفة. 

لا أتذكر كيف وماذا كنا نلعب قبل الحرب، ولكنى أتذكر أننا بعدها كنا قد حفظنا كلمات جديدة نتبادلها فى لعبات اخترعناها، فعرفنا كلمة حرب وجيش ودانة وشظية ونابالم ومدافع وقنبلة وقذيفة وطيارة وغارة وشهيد وعدو. 

يوم ٦ أكتوبر ١٩٦٩ كنا نلعب كالعادة فى مكاننا خلف ورشة القطارات، وجاءت الطائرات، وفى لحظة سقط صلاح صديق طفولتى والدماء ملأت المكان، ونام صلاح، فعدت وحدى وكان أهلنا يبحثون عنا وقد أخبرتهم بمكانه.

كان الجميع فى بيتنا قد استعدوا للمغادرة، ملابسنا فقط فى حقيبتين، وقد تركت أمى كل شىء لأننا سنعود بعد أسبوعين، هكذا كانت تظن.

كنت أبكى وقد وضعت أمى فى يدى الملونة بالدم، والذى لم تره من فرط الاستعجال، خمس بلحات رُطب من طبق صاج تركته مملوءًا بالبلح على الترابيزة.

ركبنا القطار، لأول مرة كنت أركب قطارًا، والذى سار بجوار الورشة التى كنت متأكدة أنها آخر حدود الدنيا وينام صلاح خلفها الآن. 

كان فستانى ملونًا بالدم أيضًا، وكان القطار يتحرك وقد امتلأ بالناس، انزلقتُ تحت الكرسى وتكومت منتظرة سقوط القطار من حافة الدنيا وفى يدى خمس بلحات مملوءة بدم صلاح.

وصلنا إلى القاهرة المملوءة بالأنوار والعربات والشوارع الواسعة.

لا حرب هنا.

سارت بنا سيارة حيث تكومنا جميعًا فى غرفة كانت ضيقة ورطبة ولم تخرجنا منها أمى خوفًا مما لا نعرف.

أجّر لنا أبى شقة مناسبة ولم يكن معنا عفش، فنمنا على مراتب وطبخت أمى على «بابور جاز» واشترينا «عيش مصرى» من الطابونة. 

عاد أبى لعمله فى السويس، ومرت الشهور ولم نعد إلى مدينتنا، وكان علينا الدخول إلى المدارس فى العام التالى، وأصبح اسمنا «المهاجرين»، وكنا نرتبك حين كان يطبطب علينا الناس ويسألون عن الحرب، وعن مصيرنا، تعلو أصوات تقول: معلش بكره ترجعوا لبلدكم.

وتعلمت كلمات جديدة لها وقع الغربة والخوف، وكان علىّ أن أرد على السؤال نفسه مرات ومرات: فين المهاجرين اللى هنا؟ وأقف وحدى، مهاجرة منين؟ وأرد: من السويس، وقد أضحيت محط أنظار أطفال مثلى لا يعرفون معانى الكلمات مثلى، ولا يشعرون بالخزى من السؤال مثلما أشعر، وكنت قد اشتقت إلى أصحابى وملابسى ولعبى التى تركتها أمى فى بيتنا هناك، حيث يجب أن نرجع لبلدنا.

كان ٦ أكتوبر ١٩٧٣ حين قال جدى: الحرب قامت، وجلسنا نستمع ويشرح لنا ماذا يعنى العبور. 

بعدما سمعنا المذيع يقول: «قامت القوات المسلحة المصرية بعبور قناة السويس فى قطاعات عديدة، وتم رفع العلم المصرى على القناة»، وكان الجيران يهنئوننا، وعلت هتافات العابرين من شارعنا الهادئ، وقالت أمى: هنرجع السويس بكرة، وبالتأكيد لم تكن تدرك أن ذلك مستحيل، ولكننا جمعنا ملابسنا لنكون مستعدين للعودة لبلدنا.

عادت جدتى وأعمامى إلى السويس وسكنوا بيتًا جديدًا، وكان أبى قد اشترى لنا بيتنا فى القاهرة وقرر أن نكمل دراستنا فيها، لأن السويس لم تعمر بعد.

٦ أكتوبر ١٩٧٥ أخذنى جدى لأمى معه إلى السويس، وللمرة الثانية أركب القطار الذى حين اقترب ورأيت شعلة اللهب التى تميز مدينتنا، والتى تُرى من بعيد باسقة وسط النخلات الكثيفة، تلك الشعلة التى كنا نحبها ونحن صغار، بدت فى الأفق فرُدّت روحى. 

دخلنا السويس مساء، وفى الصباح أخذنى جدى إلى بيتنا، فى الطريق كنت أسترجع حياتى، كانت البيوت ما زالت مهدمة، وأضحت الشوارع ضيقة.

كان بيتنا مخرمًا من كل مكان ولكنه قائم، فتحنا باب شقتنا ودخلت وحدى، كانت ملابس إخوتى وأمى ما زالت على الكنبة كما تركتها أمى، وكان طبق صاج موجودًا على الترابيزة مملوءًا بنوى البلح، وكانت ألعابنا فى أماكنها، وشبشب صغير ملون بالدم تركته وأنا ألبس الصندل منذ ستة أعوام، وكانت النتيجة على الحائط عليها تاريخ ٦ أكتوبر ١٩٦٩ الذى كان ذكرى رحيل صلاح، الذى تحول يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣ إلى بريق انتصار وعزة وكرامة وفخر وأنا أطوف فى شوارع مدينتى كلما زرتها وحدى، والتى امتد إليها العمران والتنمية والأمان.

٦ أكتوبر ٢٠٢١ نستطيع أن نقول الآن بثقة إنه لم يعد للعشوائية فى مسيرة وطننا مكان، وإن عبور أكتوبر كان منطلقًا ليأخذنا رئيسنا السيسى لعبور لا يقل أهمية وضرورة، عبور تنموى واقتصادى واجتماعى وثقافى وإنسانى إلى مستقبل تم رسمه وفق خطط واستراتيجيات داخلية وخارجية تليق بمكانة وقيمة دولة عظيمة مثل مصر. 

وها قد عادت لنا الروح وعبرنا إلى المستقبل بثقة.