رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بعد أزمة الغواصات الفرنسية.. أمريكا وطعن الحلفاء فى الظهر

لا حديث يطغى على الساحة الدولية الآن  سوى حديث خيانة أمريكا وبريطانيا لفرنسا في صفقة الغواصات الأسترالية، التي تتجاوز قيمتها عشرات المليارات من الدولارات.. أطلقت فرنسا تصريحات شديدة اللهجة ضد كل من واشنطن ولندن على خلفية هذه الأزمة.. بل استدعت سفيرها في كل من واشنطن وأستراليا. ووصف الساسة الفرنسيون ما حدث بأنه "طعنة في الظهر"، "خرق الثقة"، "معاملة غير لائقة"، "الكذب"، وكلها عبارات أطلقتها الدبلوماسية الفرنسية خلال الأيام القليلة الماضية للتعبير عن غضبها وخيبة أملها، ليس فقط من فسخ "صفقة" القرن مع أستراليا، ولكن من الأسلوب الذي عوملت به من قبل الحليف الأمريكي وشركائه الأنجلوسكسونيين (أستراليا وبريطانيا). فسخ أستراليا لعقد شراء 12 غواصة فرنسية أدى بالفعل إلى زلزال أعاد تسليط الضوء على طبيعة العلاقة بين واشنطن وحلفائها عامة، خاصة غير الأنجلوسكسونيين منهم.

 أول المتضررين مجموعة "نافال جروب" للصناعات الدفاعية، ولكن أيضا صورة فرنسا في العالم التي خسرت أكبر عقد تجارى في تاريخها، حيث قدرته أستراليا نفسها بخمسين مليار دولار عام 2016، قيمة أعيد تقييمها لاحقا نحو الأعلى لتصل إلى 89 مليار دولار. ويذكر أن أستراليا أنفقت منذ بداية المشروع حتى الآن ما لا يقل عن 1,5 مليار يورو. الصحف الأسترالية تحدثت عن تعويضات بقيمة 250 مليون يورو سيتعين على «كانبيرا» تقديمها لباريس لجبر ضرر فسخ العقد. باريس شعرت بالغبن أيضا لأنه مباشرة بعد إلغاء العقد أعلنت الولايات المتحدة ومعها أستراليا والمملكة المتحدة عن تشكيل تحالف ثلاثى استراتيجى يضمن تزويد «كانبيرا» بغواصات أمريكية تعمل بالطاقة النووية، ما يعنى استبعاد باريس التي عوملت كشريك من الدرجة الثانية.. ما حدث يتنافى تمامًا مع علاقة الحلفاء بعضهم ببعض لأن ماحدث لم يكن خيانة فقط بل إنه سيضر كثيرا بالصناعة العسكرية الفرنسية، التي تعتبر ركنًا مهمًا من أركان الاقتصاد الفرنسى نظرا لحجم ما تصدره فرنسا فى هذا المجال، خاصة البحرية منها.. حيث قللت أستراليا من قدرة الغواصات الفرنسية مقارنة بنظيرتها الأمريكية.. ولذلك قال وزير الخارجية الفرنسى إن ما حدث يحتاج وقتا طويلًا لإصلاحه.. ويمكن القول إن ما حدث ليس جديدًا على الإدارة الأمريكية.. بل يعبر عن تقاليد طويلة لطالما انتهجتها الولايات المتحدة الأمريكية فى معالجة علاقاتها مع حلفائها.. خيانة واشنطن لباريس لم تكن الأولى، فهناك تاريخ طويل من طعن الحلفاء فى الظهر.. وتعود أول خيانة أمريكية للحلفاء، خاصة باريس، إلى بدايات العلاقات الأمريكية الفرنسية. فأثناء حرب الاستقلال في عام 1778، لجأت أمريكا إلى عقد تحالف مع فرنسا، فيما يعرف بـ "معاهدة التحالف الأمريكى الفرنسى". ويعتقد غالبية المؤرخين أنه بدون المساعدة الفرنسية، كان من الصعب على أمريكا تحقيق الاستقلال عن بريطانيا. لكن بعيْد الاستقلال، لم تتوانَ أمريكا عن التنكر لفرنسا، والإقدام على إمضاء اتفاقية أحادية مع بريطانيا، تخدم المصالح الأمريكية وتضر بالمصالح الفرنسية.
ولم  تكتف الولايات المتحدة بذلك بل عمدوا إلى تكرارها مرات عديدة لاحقا. ففى عام 1898، وإبان الحرب الأمريكية الإسبانية، استعانت الولايات المتحدة فى البداية بقوات استقلال الفلبين بقيادة أغينالدو ثم تخلت عليها. وأثناء حرب فيتنام كان تخليها عن نغو دينديام، زعيم الفيتنام الجنوبى، بمثابة إعدام غير مباشر له. وهو ذات السيناريو الذي تكرر مع الأكراد شمال سوريا عندما تركوا لمواجهة مصيرهم أمام الاجتياح التركى لمناطقهم. 
ويعد ضمان حرية التحرك شرطا أساسيا تفرضه أمريكا على حلفائها. فحينما لا تكون أمريكا فى كامل قواها، ويصبح التحالف تقييدا لحريتها تخير عدم التحالف. أما بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن شعرت أمريكا بعظمة قوتها، قررت تغيير تقاليدها الانعزالية الطويلة، ودخلت فى تحالفات دولية واسعة. وبعد الحرب الباردة واصلت أمريكا تعزيز تحالفاتها الدولية، وكان ذلك أساسًا بسبب تفوقها على حلفائها. 
وفى الوقت الحالى، يعكس طلب أمريكا من حلفائها دفع نفقات الحماية وتخليها عن الأكراد شعورها بفقدان حرية الحركة وفقدان القدرة على إجبار حلفائها على فعل ما تريد. وهو مما يجعل دبلوماسيتها ذات طابع تخريبى، مثل الأحادية والانعزالية وتجاهل القواعد الدولية.

أمريكا لا تحفظ جميلا لحلفائها رغم ما يقدمه هؤلاء الحلفاء من فروض الطاعة والولاء للسيد الأمريكى طالما هذا التحالف في صالح واشنطن، فلولا الذى قدمه الحلفاء فى الشرق والغرب للقضاء على الاتحاد السوفيتى لما نجحت الخطة. 
وهؤلاء هم الحلفاء الذين كانوا أوائل من استجابوا لهجوم 11 سبتمبر على نيويورك وواشنطن من خلال استحضار المادة الخامسة من اتفاقية حلف شمال الأطلسى (الناتو) ولم يبخلوا بتقديم أى دعم أو مساعدة لما اعتبروه حليفتهم العزيزة – أمريكا – التي وقفت معهم فى أوقات احتياجهم طيلة فترة الحرب الباردة وما بعدها.
هؤلاء هم الحلفاء الذين انضموا إلى حملة الولايات المتحدة ضد تنظيم القاعدة فى أفغانستان قبل ٢٠ عاماً واستمروا في الوقوف جنباً إلى جنب معها حتى في حرب لا يمكن الفوز بها واستنزفت الكثير من الدم والموارد. وفي النهاية اتخذت قرارا فرديا مفاجئا بالانسحاب وإفساح المجال لعودة حركة طالبان للحكم مما أطاح بسمعة الغرب والناتو وضياع ما يقرب من ٢٠ سنة  خسر فيها الناتو أرواح الكثير من جنوده وتم استنزاف موارده.. بالإضافة إلى تخليها عن الجيش الأفغاني الذى دربته وسلحته بمليارات الدولارات. 
هؤلاء هم الحلفاء الذين انضموا إلى الولايات المتحدة فى حرب العراق . وبالرغم من الكارثة التى خلفتها الحرب ، لم يترددوا أبداً. لقد ضحوا برجال ونساء ومال لجهود الحرب ، وحتى يومنا هذا ما زالوا يعانون من عواقب هذه الحرب المضللة – وهى الحرب التي أنجبت داعش وغيرها من الجماعات المتطرفة العنيفة التى أصبحت ترهب أوروبا، بينما تصارع موجات من اللاجئين يتدفقون إلى شواطئها.. وتخلت أمريكا كذلك عن الجيش العراقى وتركته فريسة سهلة لتنظيم داعش فى العام ٢٠١٤.
هؤلاء هم الحلفاء الذين دعموا الولايات المتحدة في جهودها للتعامل مع الحروب والأزمات في الشرق الأوسط وإفريقيا. وبغض النظر عن مدى سوء وتضليل بعض هذه الجهود ، سواء فى ليبيا أو سوريا أو العراق أو البلقان ، فإنها تظل ثابتة فى التزامها بالوقوف إلى جانب أمريكا.. على النقيض أثبتت واشنطن فى الختام أنها حليف لا يمكن الوثوق به، لأنه دائما ما يتخلى عن حلفائه إذا تعارضت مصالحه مع مصالح حليفه.. وأختم بالمثل الشعبى الذى يقول "المتغطى بالأمريكان عريان".