رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أدباء على الجبهة.. حكايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس ومجيد طوبيا فى الحرب

نجيب محفوظ ويوسف
نجيب محفوظ ويوسف إدريس

الأديب موقف، وليس مجرد ظاهرة إبداعية وفنية، وموقف الأديب لا يتوقف فقط على الفن بإشكالياته، بل يتداخل مع أزمات الحياة والوجود بشكل عام، وأهمها أزمات الوطن الذى يعيش فيه ويستلهم منه القدرة على العطاء.

ولطالما كانت للأدباء المصريين مواقف وطنية راسخة فى الوجدان الثقافى، وكثير منهم ضحى بأغلى ما يملك من أجل نصرة الوطن ورفع رايته عاليًا، ولا نبالغ إن قلنا إن بعضهم مات من أجل تحقيق ذلك. وعلى مدار المِحن التى خاضها الوطن فى العصر الحديث، وأبرزها حرب أكتوبر ١٩٧٣، سجّل الأدباء المصريون مواقف شجاعة قبل النصر وخلال فترة حرب الاستنزاف حتى معركة العبور، بالوقوف بجانب قواتنا المسلحة ومؤازرة جنودنا، ومنهم من ذهب بنفسه لتشجيع أفراد جيشنا على الجبهة، وكان من أبرز هؤلاء الأدباء، العالمى نجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهما، وكانت لهؤلاء حكايات خاصة، ترصدها «الدستور» خلال السطور التالية.

«أديب نوبل» للجندى حميدة: صوت رصاصكم أجمل لغة.. ونصرنا أحسن رواية

روى الباحث كريم جمال قصة زيارة نجيب محفوظ إلى الجبهة عام ١٩٦٩، ضمن وفد أدبى وفنى ضم كوكبة من نجوم الكتابة والتمثيل.

ففي مقال ضمه باب «الفن فى المعركة» بمجلة «الكواكب»، الذى كانت تحرره الفنانة نادية لطفى، أن المجلة نظمت عدة زيارات على الجبهة لمجموعة من الفنانين والأدباء؛ لرفع الروح المعنوية للجنود، والتحدث معهم على خط القتال، ومعرفة رغباتهم وأفكارهم وأحلامهم، وكان من هؤلاء الزوار عميد الرواية العربية نجيب محفوظ الذى كان يشغل آنذاك منصب المستشار الفنى لوزير الثقافة ثروت عكاشة.

نجيب محفوظ التقى خلال هذه الزيارة جنديًا بسيطًا يدعى محمد حميدة، ودار بينهما حوار نشرته مجلة «الكواكب»، ونشر فى الصفحة المقابلة له مقال ليوسف إدريس عن زيارته الجبهة فى ذات اليوم.

وتميز الحوار بين «أديب نوبل» والجندى بالبساطة، حيث سأله «محفوظ» عن صحته وأحواله، فيما عبّر «حميدة» للأديب الكبير عن إعجابه به وبكتاباته، فيما أشاد الأخير بصمود أفراد العسكرية المصرية على الجبهة وقدرتهم على تحقيق النصر.

وتطرق الجندى إلى الجوانب الإنسانية فى أعمال نجيب محفوظ، فيما وعد الأديب الكبير الجندى بكتابة رواية تخلد بطولات الجنود وتتحدث عن نصرهم المرتقب، قائلًا له: «أنا نفسى أسمع حكايات بطولاتكم.. لكن كل لحظة دلوقتى ملك البلد، المهم ربنا معاكم، وإحنا وراكم، عايز أقول لك إن أحسن رواية، نصرنا، وأجمل لغة، صوت رصاصكم، والبركة فيكم».

القناص «نبقة» لصاحب «أرخص ليالى»: نذرتُ نفسى للوطن

زار الأديب الكبير يوسف إدريس الجبهة ضمن نفس الوفد الذى ضم «أديب نوبل» عام ١٩٦٩، وسجّل تفاصيل تلك الزيارة خلال مقال بمجلة «الكواكب» عنونه بـ«نبقة فوق النخلة»، حيث حكى فيه قصة قناص فى الجيش المصرى يدعى «نبقة»، كانت له بطولاته فى قنص أفراد جيش العدو على الضفة الأخرى من القناة.

وفى هذا المقال، يكشف كاتبنا الكبير عن أنه كان قد التقى ذلك القناص من قبل عندما كان سجينًا سياسيًا، حيث كان محبوسًا معه فى نفس الزنزانة، فيقول: «زرت الجبهة وآخر ما كنت أتوقعه، وقد اقتربت الزيارة من نهايتها، أن يهبط علىّ (نبقة) هبوط الصاعقة.. (نبقة) الآن قناص وبندقيته لا تخيب، وكثيرًا ما قالوا إننا بلاد سهلة منبسطة تفشل فيها حرب العصابات، ولولا المعركة ما كنا قد اكتشفنا أن فى كل طبيعة شيئًا يمكن أن يحارب به، وهكذا تربى للإسرائيليين فى الضفة الأولى رعبٌ مقيم من عفاريت النخل».

وقال: «استأذن (نبقة) وهبط كأنما بباراشوت غير وفى، وكسر ضلوعى وهو يعانقنى فى دقيقتين، وبسرعة طلقات (التومى جن) ينقلنى من سجن مصر حيث التقينا منذ أعوام»، مضيفًا: «(نبقة) لقب والاسم الحقيقى عبدالفتاح، وقد قابلت فى ذلك الحين فى سجن مصر ما ينيف على آلاف من البشر، ولكن أهم شخصية خرجت بها هى عبدالفتاح، فقد كان هو الذى يحضر السمك من المطعم، وكان حلقة الاتصال بالعالم الخارجى، وليس لهذا عرفته وتصادقنا، فقد بدأت أعرفه معرفة حقيقية حينما جاء وجلس ووجهه قد انقلب حاله وبلا مقدمات بدأ يتحدث عن الحب، ويقرأ لى الأشعار التى ألفها على طريقة محمد طه وأبودراع عن الحب، كانت تهمته (غش اللبن)، وحبسه ستة أشهر مع الشغل، وكان يفسر هذا كله بأنه لم يستطع أن (يغمز المعاون)».

وأكمل: «أهم ما كان يحرص عليه هو كتاب أصفر صغير طبع فيه أشعاره على نفقته، ويبدو أن الحب لم يخلق إلا للشعراء أو أن من يحب لا بد أن يتحول إلى شاعر، ولقد أحب عبدالفتاح، وحبيبته كانت المسجونة التى تحمل (البمك)، فى عنبر النساء، بين الغرف وزق العربات والانتظار وضربة كتف من هنا ونكتة فيها كل حرمان السجن من هناك».

وحكى قصة حب «نبقة» والسجينة التى كانت تدعى «زمزم»، قائلًا: «أحب عبدالفتاح، زمزم، وكان علىّ أن أتابع أخبار هذا الحب يومًا بيوم، يومًا فرحان فرحة لا توصف، فقد أعطته علبة سجائر، ويومًا حزين حزنًا يدفع على الانتحار، ويومًا مجنون، فقد قررا الزواج عقب الإفراج، وقد تنبأت له أن حبه سينجح».

وكشف يوسف إدريس عن تفاصيل حوار دار بينه و«نبقة»، حيث سأله عن حبه وزواجه، ليكتشف أن «عبدالفتاح» و«زمزم» لم يتزوجا بعد الإفراج عنهما، وأنه تطوع فى الجيش ونذر نفسه لخدمة الوطن وقد استطاع أن يقنص بعض جنود العدو، كما سأله كاتبنا الكبير عن أحوال الشعر وهل ما زال يكتبه أم توقف؟، فأنشد له الجندى بعضًا من تلك الأشعار التى تميزت بالبساطة.

مجيد طوبيا.. جسّد بطولات جيشنا فى «أبناء الصمت»

كان للروائى الكبير الراحل مجيد طوبيا موقف وطنى مشرف تجسّد خلال كتاباته ومساعيه لتجسيد انتصارات حرب أكتوبر على المستوى الفنى، حيث أسس شركة إنتاج، أنتجت فيلم «أبناء الصمت»، الذى يعد الفيلم الأهم والأبرع الذى يكشف بطولات وتضحيات أبناء جيشنا الغالى.

ولم تتحقق أمنية مجيد طوبيا فى الالتحاق بالجيش بسبب شظية تعرض لها خلال طفولته، تركت أثرًا فى وجهه، لكنه بقى متعلقًا بالجيش خاصة بعدما التحق به شقيقه «ماهر».

وسعى «طوبيا» إلى تأسيس شركة إنتاج سينمائى أطلق عليها اسم «رابيا»، واسمها مشتق من اسميهما «راضى وطوبيا»، ثم أنتجا فيلم «صانع النجوم»، وبعده كان الإنتاج الأهم فى مسيرة الشركة بفيلم «أبناء الصمت».

وأُخذ فيلم «أبناء الصمت» عن رواية لمجيد طوبيا صدرت قبل الحرب وتحمل نفس الاسم، وعند التحضير له زار أديبنا الراحل الجبهة للتصوير والتعرف على بطولات أبناء الجيش ولقائهم عن قرب لاستلهام حكاياتهم الإنسانية.