رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحزان سناء جميل.. حكايات من حياة فنانة لم ترفع «الراية البيضاء»

سناء جميل
سناء جميل

مَنْ مِنّا لم يعشق سناء جميل؟.. تلك السيدة التى وهبت حياتها للفن وأخلصت له، وتحملت فى سبيله عذابًا لا تتحمله قلوب مخلوقة من الحديد، ابتداءً بطردها من المنزل بسبب التحاقها للدراسة فى معهد التمثيل، وصولًا إلى بقاء جثمانها ٣ ليالٍ فى ثلاجة الموتى انتظارًا لظهور عائلتها، لكن دون أى جدوى.

بين هاتين الحكايتين المؤلمتين، تأخذنا الكاتبة روجينا بسالى فى رحلة إلى حياة هذه الفنانة القديرة، من خلال كتابها «حكاية سناء»، الذى يقع فى ٢٨٦ صفحة، ويضم ملحقًا يحوى عدة وثائق وصور، وننقل بعضًا من سطوره العامرة بالمعلومات فيما يلى.

أخوها طردها وأفقدها السمع بـ«قَلم» بسبب معهد التمثيل: «عايزة تجيبيلنا العار»

ما إن أتمت ثريا يوسف عطا الله- الاسم الحقيقى للفنانة سناء جميل- عامها التاسع، حتى حرصت عائلتها على إيداعها مدرسة داخلية، وتحديدًا «المير دى ديو» للراهبات فى جاردن سيتى، مع دفع مصاريف دراستها كاملة مقدمًا، حتى تخرجها بالحصول على «التوجيهية».

وبسؤال الكاتب الراحل لويس جريس، زوج الفنانة الراحلة، عن ظروف وأسباب إلحاقها بمدرسة داخلية، وهل كان هذا من قِبل والديها أم شقيقها، أجاب بأنه لا يملك معلومات دقيقة عن هذا الأمر، وعندما سألها قالت: «عمرى كان ٩ سنوات وأنا أمُر بكل هذه الأحداث، لم أكن مكتملة الوعى والإدراك لأتذكر».

داخل هذه المدرسة الداخلية كان هناك اهتمام بالغ بالأنشطة الطلابية، وعلى رأسها المسرح، من خلال إقامة عروض مسرحية بشكل دائم، وكانت تُقدم عادةً باللغة الفرنسية، وشاركت فيها سناء جميل بالتمثيل.

من خلال هذه العروض المسرحية أحبت «سناء» التمثيل، خاصة أنها تميزت فيها تميزًا خاصًا، واكتسبت من خلالها خبرة معقولة، ما دفع المشرفات على النشاط المسرحى إلى اختيارها لتتولى مسئولية فرقة التمثيل، وتَركنّ لها حرية اختيار الدور الذى تحب أن تؤديه، تمامًا مثل أى نجمة أولى على «الأفيش».

وولّدت تلك العروض لدى الفنانة الراحلة شعورًا فريدًا باهتمام كل مَنْ حولها بها، وهو التعويض الذى حل بديلًا عن الشعور المُقبض بالوحدة فى بداية التحاقها بالمدرسة، لتبدأ من هنا حكايتها ومشوارها مع خشبة المسرح، بعدما اكتشفت حبها وشغفها بالفن وتعلقها به، واستحوذ على فكرها الاستمرار فى التمثيل.

«كيف تجرؤين على الالتحاق بمعهد التمثيل دون علمى؟ أتريدين أن تجلبى لنا العار؟ على آخر الزمن تطلع واحدة فى العيلة مشخصاتية!».. بهذه الكلمات واجه شقيق سناء جميل إياها، رافضًا انضمامها إلى معهد التمثيل، باعتبار هذا إهانة له ولعائلته ولكل فرد فى مدينة ملوى حيث نشأت، فطلب منها ترك المعهد فورًا كشرط أساسى للبقاء معه وفى حمايته.

رفضت «سناء» طلب شقيقها تمامًا، فكانت صدمته كبيرة بعد أن خالفت كل توقعاته، فبحث عن ردة فعل عنيفة يختبئ وراءها بعد تلك المفاجأة، ووجدها فى لطمها على خدها، تلك اللطمة التى أفقدتها طبلة الأذن اليمنى وتسببت فى أزمة سمع لديها لازمتها طوال العمر، بخلاف ما أشيع أن هذا كان بسبب لطمة عمر الشريف لها ضمن أحداث فيلم «بداية ونهاية».

تصاعدت وتيرة الغضب ضد «ثريا» أو «سناء»، فطردها شقيقها من المنزل، فى رد فعل شديد المفاجأة عليها، فلم يخطر ببالها أن تسير الأمور هكذا، ولم يتصور هو أن حبها للتمثيل يجعلها تعصى أمره، بل ويجعل لديها شجاعة القبول والرفض، وشجاعة ترك البيت، لكنها فعلت.

وكما واجهت الحياة بمفردها صغيرة، بدأت فى مواجهتها مرة أخرى وهى شابة، لتخرج ليلًا مواجهة مصيرًا مجهولًا، وحيدة بلا مأوى، وآمالها وأحلامها تتهاوى، لا لشىء سوى تمسكها بحلمها وحبها للتمثيل، الذى عليها أن تخلص له، معتبرة فى الانسحاب نهاية لحياتها، وأن ما فعلته ليس عنادًا، بل رغبة فى بناء كيان.

قضت سناء جميل عدة ساعات تجوب الشوارع بلا هدف، حتى أنهكها التعب وتوقفت عن التفكير والحركة، لكن فكرة لمعت فى رأسها، وهى الذهاب إلى زميلها الفنان سعيد أبوبكر وزوجته الإيطالية، فهى على علاقة طيبة به، وبالفعل توجهت إليه، واستقبلها وزوجته بكل احترام، وبعد أن هدأت قليلًا واستجمعت قوتها من جديد، روت لهما ما حدث، وتأثر الزوجان بشدة من الموقف.

وفى صباح اليوم التالى، اتجه سعيد أبوبكر إلى الفنان زكى طليمات، الذى آمن بموهبة «سناء»، وحكى له ما جرى معها، فاستدعاها الأخير، وكان شديد التأثر بما سمع من «أبوبكر»، وعرض عليها أن يذهب بنفسه إلى شقيقها ويتوسط لحل المشكلة بينهما، لكنها رفضت قائلة: «أنا خرجت من البيت، ولن أعود إليه.. يجب أن أكمل دراستى، ولن أتراجع عما فعلته مهما حدث».

تفهم «طليمات» الأمر وزاد إعجابه بها وبحماسها وعزة نفسها وتمردها أيضًا، وضمها إلى الفرقة المسرحية التى قرر تكوينها من خريجى معهد التمثيل باسم «فرقة المسرح الحديث»، وكانت لا تزال طالبة.

ومن خلال الفرقة أصبحت «سناء» تحصل على مكافأة ٦ جنيهات، لتضيفها إلى الجنيهات الستة مكافأة معهد التمثيل، وبالتالى أصبح دخلها بين ليلة وضحاها ١٢ جنيهًا شهريًا، كما أن «طليمات» أخذ لها إذنًا من «بيت الطالبات» لتستطيع التحرك بحرية دون تقيد بمواعيد الدخول والخروج، بما يتناسب مع العروض التى تشترك فيها من خلال الفرقة، فكان خير سند ويد عون لها.

زوجها الأول سرق «تحويشة عمرها» وهرب.. ووجدت العوض فى لويس جريس

لم تكن الحياة الخاصة لـ«سناء جميل» مشاعًا، لدرجة تكاد تصل إلى حد الكتمان، فسّره البعض برغبتها فى الإخفاء المتعمد لبعض أسرار حياتها، فالفنانة الراحلة ظلت طوال حياتها حريصة كل الحرص على ألا يقتحم أحد حياتها الخاصة أو يحاول مجرد اقتناص معلومة دون رضاها.

وفى حوار صحفى أجرته معها مجلة «روزاليوسف» عام ١٩٦٠، كشفت «سناء» عن معلومة مرّت دون أن تلفت انتباه أحد، وهى أنها تعيش وحدها لأنها مطلقة، الأمر الذى استدعى البحث عن هذا الحدث الذى لا يعرفه كثيرون، ويكشف ما قلناه سابقًا عن حياتها الخاصة المحاطة بأسوار حصينة.

والحقيقة أن «سناء» تزوجت بشخص بعد قصة حب مخلصة من جانبها، ووثقت فيه واعتبرته واحة أمان، لكنه خان الأمانة التى أؤتمن عليها، وسرق «تحويشة» عمرها وهرب، وكأنها ينقصها وسط طوفان وصراعات حياتها مزيد من الأزمات تضاف إلى ما تحاول الهرب منه.

ربما لم يسمع أحد عن هذه الواقعة من قبل، لكن بعد بحث دقيق تبين لنا أنها تزوجت بالفعل من شخص يدعى «سامى»، وهو شقيق فنان شهير، والأمانة تقتضى أن أؤكد أننا لم نعثر على إجابة قاطعة حول سؤال: هل هذا هو الزوج الذى سرق الأموال وهرب أم شخص آخر فعلها؟

رغم هذه التجربة المريرة التى مرت بها سناء جميل، امتلكت من الوعى ما يكفى لئلا تخضع لقانون «السيئة تعُم»، وكانت تدرك أن فى التعميم خللًا مفزعًا، ليدق قلبها مرة ثانية ويختار شخصًا آخر، هو الكاتب الصحفى لويس جريس، هذه المرة لم يخذلها حتى آخر يوم فى عمرها وعمره.

صنع «لويس» فارقًا مهمًا فى حياة سناء جميل، فقد أدرك أن نجاحها مسئوليته، وقطع على نفسه العهد بالاستمرار فى دعمها والحفاظ على موهبتها، ووفّر لها كل السبل التى تجعلها تختار أدوارها بعناية، وأن يكون لديها المقدرة على القبول والرفض دون شعور بالندم، أو الاضطرار إلى قول «نعم» من أجل المادة والتربح فقط، دون اعتبار لما هو أهم: القيمة الفنية.

ولكونها فنانة مثقفة وقارئة جيدة، أصبح أصدقاء «لويس» أصدقاء لها، وفيما بعد شكلوا أبعادًا جديدة فى وعى وإدراك «سناء» ودعم ثقافتها، تلك الثقافة السمعية التى أتت من المناقشات التى حرص زوجها على عقدها دومًا.

بقى جسدها فى «المشرحة» 3 أيام أملًا فى ظهور عائلتها دون جدوى

وصلت سناء جميل إلى سن السبعين وهى لا تزال متوهجة، وتأثيرها قوى عميق، وأداؤها لم يفتر، ودون أن تلجأ إلى أعمال بلا قيمة، ولولا وجود الدراما التليفزيونية لأصيبت بالقهر، بعد أن مُنعت من العمل فى المسرح بالتسعينيات، وابتعدت عنها السينما دون سبب واضح، ولم تقدم سوى ٣ أفلام آنذاك.

فنانة كبيرة تظل ١٠ سنوات أو أكثر لا تقدم إلا هذا الرقم الهزيل من أعمال سينمائية ولم يستعن بها أحد، لذا لم تجد من حولها سوى التليفزيون، الذى لجأت إليه ثانية بعد أن لجأت إليه قديمًا بعد فيلم «بداية ونهاية».

وكمن شعر بقرب الرحيل، قدمت فى أقل من عامين ٩ مسلسلات دفعة واحدة، دون عمل سينمائى واحد، حتى جاء فيلم «اضحك الصورة تطلع حلوة» فى ١٩٩٨، ليكون آخر أعمالها السينمائية، ويصبح أيقونة لكل المشاركين به وختامًا عظيمًا لأعمالها.

فى عام ٢٠٠٢ عُرض عليها المشاركة فى مسلسل «أبيض X أبيض»، لكن المرض هاجمها، فقد أصيبت بسرطان الرئة، ولم تستطع استكمال تصوير سوى ١٥ مشهدًا فقط من أحداث المسلسل، واقترح زوجها لويس جريس الاستعانة بفنانة أخرى، لأنه شعر بأن الأمر قد يمتد طويلًا، إن لم تكن النهاية، وأنقذت الموقف الفنانة ماجدة الخطيب التى أخذت الدور بدلًا من سناء جميل.

هزُلت صحة «سناء» ودخلت العناية المركزة، بعد أن ساءت حالتها ووصل المرض إلى مراحله الأخيرة التى يصعب علاجها، وأصبحت غير قادرة على خوض المزيد من المعارك بعد أن وصلت سنها إلى ٧٢ سنة، لتستسلم وترحل عن الحياة فى ٢٢ ديسمبر ٢٠٠٢.

آن الأوان لعائلتها أن تظهر، فيقترح زوجها ترك الجثمان فى «ثلاجة الموتى» حتى ينتشر الخبر فى كل المحافظات، ويعلم الجميع بوفاة سناء جميل، وبالتالى تظهر العائلة وتلقى عليها نظرة الوداع الأخيرة، لكن لم تفارقها مشاعر الخذلان حتى بعد الوفاة، فبعد ٣ أيام تُرك فيها الجسد دون دفن.. لم يحضر منهم أحد.

ماذا فعلت «سناء» يُشين هذه العائلة ليتبرأوا منها هكذا ولا يقدر حتى الموت على تجاوز قطيعتهم لها؟ ليضطر زوجها التسليم بالأمر الواقع، كما فعلت هى فى حياتها، ويقرر دفنها لترتاح روحها وتطمئن.

خرجت الجنازة، موكب مهيب واستفتاء شعبى على محبتها وقدرها، حضر جمهورها بأعداد مهولة غير متوقعة، وأصدقاؤها، الحزن يخيم عليهم، الوجوم يرتسم على ملامحهم، لدرجة أنك قد ترى ما بداخل قلوبهم.