رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أفغانستان بين الصين وأمريكا

قاد التطور الرأسمالى إلى استقرار تقسيم محدد للعالم تمتلك فيه الدول الأكثر تطورًا مجمل عناصر القوة، التى تتيح لها التنافس على الهيمنة خارج حدودها، ومن هذا المنطلق فإن الرأسمالية تنطوى على المنافسة الشديدة، ولعل أهم قوتين متنافستين على الهيمنة على السوق العالمية الآن هما الولايات المتحدة الأمريكية والصين، حيث وصل التنافس بينهما إلى ذروته عام ٢٠١٨ وحدوث ما يطلق عليها «الحرب التجارية»، وهو مصطلح يجسد احتدام التنافس وضراوته فى إطار العولمة. 

وفى إطار التنافس وتوزيع المصالح والنفوذ، قامت الصين بعد صعود طالبان فى أفغانستان للحكم- والتى فى تقديرى أن صعودها مرّ بمجموعة من التفاهمات مع أمريكا لخدمة بعض الأهداف الاستراتيجية- بالإعلان عن أنها «مستعدة لإقامة علاقات ودية مع الحركة»، وهذا الإعلان ينطلق من أكثر من رؤية، منها ما يتعلق باحتواء حركة طالبان وتداعياتها السلبية المحتملة على الإقليم، ومن ثَم محاولة لحماية الأمن القومى الصينى، لا سيما أن الصين تشترك مع أفغانستان حدوديًا فى منطقة شينجيانج، وهى منطقة الإيجور المسلمين، كما أنه إذا كانت أمريكا تريد زرع قلاقل فى هذه المنطقة بشكل مباشر أو غير مباشر، فتكون الصين قد حاولت درءها، وبالتأكيد بالإضافة إلى هذه المصالح، هناك مصالح اقتصادية تبحث عنها الصين، وهو ما يفضى إلى أن الاستقرار الأمنى والاقتصادى فى أفغانستان حلقة مهمة فى حلقات الصراع بين الصين وأمريكا. 

دخلت حركة طالبان كابول، وهو ما يُعد خلافًا للتوقعات بشأن مهلة التسعين يومًا، وفى خضام انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان وتطوراته المتسارعة، تبدو الصين مهتمة بالتواجد السياسى والاقتصادى لملء الفراغ الأمريكى، ولكن ليس عبر التواجد العسكرى على الأقل خلال هذه الفترة، بل عبر بوابة الاقتصاد، ومن ناحية أخرى ربما ترى طالبان أيضًا أن الصين مصدر مهم للدعم الاقتصادى الآن، سواء من خلال باكستان كوسيط، أو من خلال علاقات مباشرة مع الصين، لا سيما أن بعض المانحين لأفغانستان قد يتراجعون بشكل كبير مع صعود طالبان للحكم، حيث بلغ ما يقرب من ٨٠٪ من حجم الإنفاق العام لأفغانستان من المانحين عام ٢٠١٨. 

بدأ اهتمام الصين بأفغانستان تتضح ملامحه منذ أن قامت بدعوة وفد من طالبان فى ٢٨ يوليو الماضى، من أجل تعزيز سبل التعاون، ويمكن اعتبار هذه الزيارة بمثابة إرساء انتصار دبلوماسى لطالبان. مع التواجد الأمريكى فى أفغانستان كانت الاستثمارات الصينية محدودة للغاية، فبلغ حجم الاستثمار الأجنبى المباشر ٤٫٤ مليون دولار عام ٢٠٢٠، فى حين بلغ ١١٠ ملايين دولار فى باكستان، ومع مغادرة أمريكا أصبح المسار الاستثمارى محط اهتمام الصين، فمن أفغانستان يمر مشروع الحزام والطريق، الذى يعد الطريق الأقصر للربط بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا، وما بين الصين والشرق الأوسط، وهو ما يعطيها قدرة الهيمنة الاقتصادية على دول وسط وجنوب آسيا، بالإضافة إلى أن بكين تمتلك مشروعًا استثماريًا على مقربة من كابول، يهدف إلى إنشاء أكبر مناجم للنحاس فى العالم، لذلك عدم استقرار أفغانستان يصدر قلقًا لدى الصين على مصالحها الاقتصادية، التى تعزز من نفوذها العالمى، ورفع منافستها مع الولايات المتحدة الأمريكية.

تسعى أيضًا الصين للسيطرة على سوق العناصر الأرضية على مستوى العالم، حيث يوجد ما يزيد على ثلث احتياطيات هذه العناصر النادرة فى الصين، وهو ما استخدمته عام ٢٠١٩ بعدم مد الولايات المتحدة الأمريكية ببعض من هذه العناصر فى إطار الحرب الاقتصادية بينهما، ومن هنا تأتى أيضًا أهمية أفغانستان بالنسبة للصين، فهى تمتلك معادن مهمة تقدر ما بين تريليون دولار وثلاثة تريليونات دولار عام ٢٠٢٠، وتستخدم هذه المعادن فى صناعة الإلكترونيات والسيارات الكهربائية والأقمار الصناعية والطائرات، التى تحتاج إليها الصين، وربما أيضًا تتدخل الصين كشريك استثمارى مهم فى استخراج عنصر الليثيوم، الذى تفكر حركة طالبان فى استخراجه وتصديره، وعلى ما يبدو أن الصين كانت تخطط إلى النفوذ الاقتصادى فى أفغانستان من خلال خطط استراتيجية بدأت من عام ٢٠١٦، فقد وقعت مذكرة تفاهم بين بكين وكابول لتمويل أفغانستان بـ١٠٠ مليون دولار. كل هذه المعطيات تحاول الصين من خلالها كسب المزيد من النفوذ والمصالح الاقتصادية، كمحاولة منها للتقدم على منافستها أمريكا فى إطار السيطرة الاقتصادية على العالم. فدائمًا التحرك الصينى ينحى جانبًا عوامل السياسة والأيديولوجيا، وذلك مقابل هيمنة الاقتصاد والمصالح النفعية البحتة، فى حين أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تنحى المنافع السياسية جانبًا، ولكن تمزج الهيمنة الاقتصادية بالهيمنة السياسية.

يعد شكل العلاقات الأمريكية الصينية فى ظل تنامى القدرات الصينية بقوة له تأثير فى تحديد ملامح النظام العالمى الجديد القادم، فالعلاقات الأمريكية الصينية هى علاقات معقدة تتراوح بين التقارب حينًا والتصارع حينًا آخر، ويرجع ذلك بالأساس لاختلاف مصالح كل منهما عن الأخرى، فالولايات المتحدة تنظر إلى الصين على أنها قوة ناهضة لها دورها الإقليمى والعالمى بما يمكن أن يهدد مصالحها الحيوية وأمنها القومى، كما تنظر الصين إلى الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة ذات المصالح المتشعبة على مستوى العالم، وفى ظل هذا التقارب والتباعد بين القطبين الاقتصاديين الكبيرين يحدث الصراع الذى ينبثق من التنافس الشديد بينهما، وهو ما يدفع ثمنه دول العالم النامى على كل المستويات.