رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

راجح داود: «حصص الموسيقى» فى المدارس الحل الوحيد لمواجهة «المهرجانات»

راجح داود
راجح داود

لا أعرف لماذا حين اقتربت من منزل راجح داود فى مصر الجديدة ونظرت إلى الطابق الثانى وشرفته التى لا تحتمل عتمة الليل فتمتلئ دائمًا بالنور، ظللت أنتظر سماع صوت البيانو ليملأ روحى، كما لو كنت على موعد مع صدفة من صدف فيلم «رسائل البحر»؟.

خيالات راجح داود كانت معى، وحمدت الله أن مكان الحوار جرى تبديله ليكون داخل منزله لألقى نظرة على تفاصيل صاحبت رجلًا يؤمن بأن ما بين السطور يمكن للموسيقى أن تراه وتحييه.

البيت شقة صغيرة هادئة للغاية، تلمح عيناك على جدرانها شيئًا من الجمال، غرفة الموسيقى ذات الستائر الوردية، التى طلبتُ من زوجته أن أراها، معبأة بآلات ونوت موسيقية وسكون، وجوه الفيوم مرصوصة بعناية على أخشاب المكتبة، كما لو كانت شاهدًا ومستمعًا أول، أوفر حظًا منّا جميعًا.

حين أخبرته بأن شخصًا ما كتب عنه قصيدة داخل ديوانه لمعت عيناه كما لم يكن يعرف إلى أى مدى تتغلغل موسيقاه فى القلوب، أو لم يعرف كيف رأينا «الكيت كات» و«أرض الأحلام» و«الراعى والنساء»، وكيف منحتنا موسيقاه مع كادرات داود عبدالسيد طريقًا إلى النور.

فرح مثل الأطفال حين رددت بيتًا كتب عنه «أحلى من راجح داود وهو بيفصصلى قلبى حتة حتة».. «الدستور» حاورت الموسيقار الكبير، وكشف لنا عن أسرار يقولها لأول مرة.

 

■ بداية.. كيف كان إحساسك حينما حصلت على جائزة الدولة التقديرية فى الفنون؟

- شعرت بسعادة كبيرة، لأن هذا التقدير جاء بعد سنوات من العمل والتعب، خاصة أننى ترشحت لنيل هذه الجائزة منذ عامين، لكنها لم تكن من نصيبى، ولم أكن أتوقع الحصول عليها خلال هذا العام.

هذه الجائزة مهمة، وهى شرف وفخر لأى مصرى يحصل عليها، وأعلم أن كل من يترشحون لنيلها متخصصون ومثقفون كبار، وهذا يعنى أنه حتى المرشحون للجائزة والمتقدمون لها بذلوا مجهودات تجعل كلًا منهم يستحق الجائزة.

وأنا أقدّر هذه الجائزة بشكل شخصى، لأنها بعيدة عن المحاباة والمجاملة، لذا أنا سعيد بالحصول عليها، وسعيد بترشيح مكتبة الإسكندرية لاسمى.

■ ما مدى دقة مصطلح الموسيقى التصويرية؟

- هل الموسيقى تُصوّر؟.. الموسيقى تُسمع والكاميرا لا تصورها، لذا فهو مصطلح خاطئ وإن كان دارجًا.

ظهر هذا المصطلح حين احتاجت السينما المصرية فى بداياتها إلى موسيقى خالية من الغناء لتركيبها على المشاهد، وهى لم تكن متاحة فى هذا الوقت، ولهذا لجأوا إلى مقطوعات من الموسيقى العالمية، ومع الوقت شاع مصطلح موسيقى تصويرية للتفرقة بين الموسيقى المجردة وموسيقى الغناء، لكن التصحيح أنها «موسيقى سينمائية» أو «موسيقى مسرحية» حسب العمل الموضوعة داخله.

■ كيف كانت أسرتك ترى الموسيقى؟

- أنا ابن الطبقة المتوسطة، وهى طبقة محظوظة، خصوصًا فى فترات الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، إذ كان التعليم جيدًا فى المدارس العادية، وكنا نحضر حصص فنون ورسم وموسيقى ورياضة، وكانت الأسر المتوسطة تساعد أطفالها على ممارسة الفن لتوفير منفذ آمن وجميل لكل طفل كى يخرج طاقاته.

وتعلمت الموسيقى بدعم من أسرتى، وأحببتها أكثر حينما كبرت، وشاركنى فى حبها أخى جهاد داود، رحمه الله، هو الآخر تخصص أوركسترا وكان فنانًا جميلًا، وأريد أن أقول إن قرار التأليف الموسيقى لم يكن حلمًا حينما كنت شابًا، فقد بدأت طالبًا أدرس العزف على البيانو فقط.

ولى عمة كانت مُدرسة موسيقى، ثم أكملت دراسات عليا وكانت تدرس فى الكونسرفتوار.

■ ما الفرق بين الملحن والمؤلف الموسيقى؟

- دور الملحن هو تلحين الكلمات عبر محاولة الوصول إلى مضمونها وروحها، مع مراعاة موضوعها، أما المؤلف الموسيقى فهو فنان حر، لا يختلط شىء آخر بإبداعه، ولديه قدرات تساعده على خلق حالة يراها فى عقله أولًا، ثم تترجمها أصابع العازفين.

يمكن للمؤلف الموسيقى أن يصنع سيمفونية، أو مقطوعة موسيقية بآلة معينة، فهو مثل الشاعر الذى يكتب قصيدة شعر فى معنى بعينه.

التأليف يحتاج إلى عناصر تخصه، مثل اللغة والتلوين الصوتى، لا بدَّ من أن يكون المؤلف ملمًا بها، أما الملحن فكل إبداعه فى موهبته، وقد نجد ملحنين كُثُرًا- أشهرهم سيد درويش- لديهم هذه الموهبة، لكن إبداعهم ينحصر فى التلحين فقط.

المؤلف الموسيقى إن لم تكن لديه ملكة عمل تراكيب نغمية لشعر معين، فلن تكون لديه ملكة التلحين.

■ ماذا كنت تعنى حينما قلت إن «الفيلم هو الذى يحدد الطريقة التى نصنع بها الموسيقى»؟

- أرى أن الأفلام لها أنواع كثيرة، اجتماعية أو أكشن أو كوميدى، وفيما يخص الكوميديا فقراءة السيناريو فعل غير مؤثر، لأن الموسيقى تعتمد على «الإفيهات»، أما الأفلام الاجتماعية فلا بد للموسيقِى أن يقرأ السيناريو، لأن هناك معانى كثيرة يريد الكاتب أن يوصلها للمشاهد، هناك ما يختبئ بين السطور، ولا بد كذلك من الاجتماع بالمخرج لمعرفة تصوره.

■ لماذا غيرت موسيقى فيلم «رسائل البحر»؟

- حينما أصنع موسيقى لأى فيلم أراه فى مخيلتى أولًا، ويحدث أحيانًا أن أصادف جزءًا لا يعجبنى، وأرى أننى تحيزت خلاله لجانب على حساب آخر.. وقد يكون هذا ما حدث فى فيلم «رسائل البحر».

■ هل يكون للموسيقى السينمائية بُعد فلسفى يختلف باختلاف الفيلم؟

- نعم، فهناك أفلام سطحية وأفلام تناقش فكرة عميقة، وأفلام أخرى بسيطة تقدم فكرة عميقة بين السطور، ولا بد من أن يراعى أى مؤلف موسيقى اختلاف أنواع الأفلام والقضايا التى تناقشها.

■ لماذا تعرضت موسيقى فيلم «الكيت كات» للهجوم فى البداية؟

- خلال الفترة التى جرى خلالها إنتاج فيلم «الكيت كات» كان الدارج هو استخدام موسيقى بشكل معين فى الأفلام التى تدور فى منطقة شعبية، موسيقى تكون قريبة من جو الحارة، لكننى لم أفعل ذلك، لذا كانت الموسيقى صادمة للبعض.

لم أصنع الموسيقى استنادًا إلى شكل المنطقة التى تدور فيها الأحداث، بل صنعت موسيقى تتناغم مع أفكار المؤلف، الذى يرى البطل كفيفًا يتحدى عجزه، وهى فكرة مهمة لا بد من الانتباه لها، فالشيخ حسنى لم يكن مجرد أعمى، وهذا ما ركزت عليه.

■ هناك من يعتبرون الموسيقى الكلاسيكية بعيدة عن الجمهور.. ما رأيك؟

- بانفعال: «دى مشكلة الناس»، الموسيقى المناسبة لموضوع معين إذا كانت جيدة سيحبها الناس بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية والثقافية، وأكبر دليل على هذا هو موسيقى فيلم «الكيت كات»، فقد حقق العمل انتشارًا كبيرًا وأحبه الناس، ولم يكن نخبويًا.

■ هل يسهم الفنان فى تشكيل ذائقة الجمهور؟

- الفنان يشكّل الجمهور، فحين أعرض رؤيتى على الجمهور فهناك احتمالان، أن يحبها أو لا، لكن لو تعاملت كتابع للجمهور «هيودينى فى داهية».. من يفعل ذلك ويجعل الجمهور يشكّله يهتم بأن يبيع، هو حر فى ذلك، فى النهاية هى اختيارات تختلف من شخص لآخر.

■ ما السبب فى انتشار أغانى المهرجانات؟

- وزارة التربية والتعليم، لأن تعليم الأطفال الموسيقى هو مسئولية وزارة التربية والتعليم، وأقولها واضحة إن لم يهتم أحد بتدريس الموسيقى والفنون عامة فى المدارس، فليس من المنطقى أن يتعجب من تغير ذوق الشباب.

ولا أرى أن الجمهور هو سبب انتشار أغانى المهرجانات، بل عدم وجود اهتمام كافٍ بتدريس الموسيقى والرسم والرياضة.. «مستنى يحصل إيه؟».. التعليم الآن عبارة عن غرف مغلقة بها عدد من الطلاب، المُلام هنا هو منظومة التعليم.

■ ما تقييمك لمحاولات نقابة الموسيقيين الحد من انتشار أغانى المهرجانات؟

- هذا عبث، ولا يمكنهم محاربتها بهذه الطريقة، ولا أحد يستطيع أن يمنع آخر من ارتداء ملابس معينة أو غناء شىء معين، منع الشىء يسهم فى انتشاره، والدليل على ذلك أن الموسيقار محمد عبدالوهاب حينما حاول منع انتشار أغانى أحمد عدوية تحولت شرائط الكاسيت الخاصة به إلى ممنوعات يرغب الجميع فى الاستماع إليها.

لا يمكن أن تمنع شخصًا يغنى فى الشارع ويحيط به الناس، لكن يمكن منع الاهتمام به فى التليفزيون والجرائد، ويمكن أن نجعل المنافسة بين أشكال الموسيقى المختلفة عادلة.

■ كيف نغير ذائقة الجمهور؟

- عبر جعل حصص الموسيقى إجبارية فى المدارس، وأن يتولى تعليم الموسيقى مدرسون محترفون، وأن تكون درجات الاختبارات الموسيقية مؤثرة فى مسيرة الطفل.

ولا بد للتليفزيون أن يخصص ساعات لنشر الثقافة والفنون، منها ساعات للموسيقى، ولا بد من غلق أى قناة لا تلتزم بذلك.

■ هل من الضرورى أن يكون المخرج على درجة معرفة معينة بالموسيقى؟

- نعم، فحين يكون المخرج فاهمًا للموسيقى يستطيع التعاون بشكل أفضل مع المؤلف الموسيقى، ومن المنطقى أن يدرس المخرج الموسيقى والرقص والغناء الأوبرالى، ليس ليتعلم الرقص وصناعة الموسيقى والغناء، بل ليعرف كيف يصنع مشاهده.

دراسة السينما فى أى مكان فى العالم تتضمن دراسة فنون أخرى، حتى يفهم المخرج أدواته، ولا يطلب أشياء خيالية.

■ هل تسهم الموسيقى فى الحفاظ على الهوية؟

- نعم، والدليل أن لكل مجموعة من الناس أغانى خاصة بها، فأغانى الفلاحين تختلف عن مواويل الصعايدة.

الموسيقى تشارك فى صناعة التاريخ والحياة، بدءًا من الأم التى تغنى لأطفالها.. الفن ليس وسيلة للتباهى بل هو عنصر يشارك فى تنظيم الكون.

■ هل التكنولوجيا ساعدت المؤلف الموسيقى؟

- يمكن للتكنولوجيا أن تساعد وأن تؤذى، فالتكنولوجيا جعلت من السهل صناعة إبداع، لكنها فى المقابل ساعدت فى ظهور موسيقى رخيصة «قرف».. طريقة التعامل مع التكنولوجيا هى التى تحدد مدى الاستفادة منها.

■ ما أبرز مشكلات الموسيقيين فى مصر؟

- الأجور.. فعلى الرغم من زيادتها خلال الفترة الأخيرة لكنها قليلة بالنسبة لعروض أخرى فى السوق.. فنحن نعانى من ندرة الموسيقيين لأن من يُرِد حياة كريمة لأطفاله فلن يغامر بتعليم ابنه شيئًا لن يساعده على كسب رزقه.

تركنا أشخاصًا «متخلفين عقليًا» يظهرون على الشاشات ويصعدون منابر الجوامع ويخبرون الناس بأن الفن حرام.

وللأسف أزمة الأجور تتسبب فى سفر الكثير من المواهب للخارج، خاصة إلى الدول العربية.

■ ما رأيك فى أداء النقاد الموسيقيين؟

- ليس لدينا نقاد موسيقيون بسبب عدم اهتمام الإعلام المرئى والمسموع بنقد الموسيقى.