رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أن نثق بما نراه.. كيف غيرت الفوتوغرافيا التاريخ (بصرت بما لم يبصروا به)

هل توقعت يوما أن تري صورة ترد إليك روحك؟ 

فقط اذهب إلى ستوديو تصوير ، واجلس بلا حراك لمدة دقيقة كاملة ، انتظر ومضات ضوء خاطفة ، وبعد دقائق تري صورتك ..لكنك لست وحيدا ثمة أجسادا غير واضحة المعالم تحوم في خلفية الصورة ، قد تكون أمك أو زوجك أو ابنك أو صديق غالي رحل دون وداع،هكذا في لحظات ترد إليك الروح ويرتوي قلبك بالأحبة 

كما يقول بيتر مانسو في كتابه  "الظاهرون" "الاعتقاد بأن الموتى قادرين على التواصل مع الأحياء، مستمدة من كتابات وفلسفة عالم اللاهوت السويدي إيمانويل سويدنبورج. استحوذت الروحانية على خيال البلاد في مارس 1848 ، وقدم التصوير الفوتوغرافي للروح العزاء ، حيث يظل الموتى في هذا العالم ، حتى لو كان ذلك مجرد ظل.

كما ذكرنا في المقال السابق بدأ التصوير الفوتوغرافي للروح بسبب الحرب الأهلية الأمريكية فلجأ المجتمع للروحانيات في سبيل إيجاد مبرر لألام الفقد ،أراد الناس أن يعرفوا أن أحبائهم الذين ماتوا ما زالوا قريبين ويساعدون في توجيه حياتهم،فأصبح الإتصال بالموتى من خلال وسائل تحضير الأرواح هو السائد. 

كانت العديد من هذه الأنشطة أعمال استعراضية  ، لكن الناس لم يهتموا،لقد أرادوا بشدة التمسك بالأمل           كان التصوير الفوتوغرافي تكنولوجيا وليدة وقد قرر المصورون تحقيق رغبات المكلومين في رؤية أبنائهم أو إخوانهم المفقودين مرة أخيرة.

مبتكر هذه الممارسة هو وليام موملر( William H. Mumler) ، مصور من بوسطنوهو كيميائي هاو ورائد أعمال لا يثنيه عن طموحه شيء ، ذات مرة باع إكسير من تصنيعه لعلاج عسر الهضم.

بظهور الاختراع الوليد تدرب علي إظهار ألواح الفضة  ، ومارس التصوير الفوتوغرافي باعتباره هواية ، لكن هذه التكنولوجيا الجديدة الرائعة تنتج صورًا ، سيدفع الناس دولارًا كاملاً لشرائها.

بعد الوقوع في حب  هانا جرين ستيوارت ، التي إدعت أنها عرافة ، بدأ موملر – رغم كونه ليس روحانيًا ولا مؤمنًا بالإتصالات الخارقة - في إعادة النظر في أرائه،كما إدعى لاحقًا، وأثناء  محاولته الدؤوبة في التدريب التقط صور ذاتية ، لكنه لاحظ في إحدي الصور ظاهرة غير قابلة للتفسير، على الرغم من أنه كان وحيدًا تمامًا في الغرفةعند التقاط الصورة ، بدا أن هناك شخصية إلى جانبه ، فتاة "منيرة تجلس على كرسي قريب "تعرف عليها على أنها ابنة عمه الصغيرة التي ماتت قبل سنوات.


 

صورة شخصية لموملر وخلفه روح

 

كان موملر لديه موهبة في الترويج لنفسه ،انتشرت قصة صورة الشبح في الصحف الروحية الشهيرة مثل Banner of Light، قدم نفسه في الصحافة اليومية كمصور للعالم الأخر،تزوج موملر من ستيوارت وأنشأ متجرًا في الاستوديو الخاص به في أكتوبر 1864 ،كانت الحرب لا تزال قائمة التقط كل جندي تقريبًا صورة لنفسه بالزي الرسمي قبل التوجه إلى الحرب ،هنا بدأ سكان بوسطن يصطفون في ستوديو الصور الصغير الخاص به لدفع ما يصل إلى 10 دولارات مقابل لقاءهم مع أحبائهم المفقودين.

أبصر مولر مالم يره الأخرون ،فنجح في العمل كوسيط ، مستغلًا الانبهار بالعالم الباطني ، والخصائص غير المكتشفة للوسيط الجديد .

من مجموعة وليام موملر

 

 

قدم موملر نفسه كشخص لا يستطيع شرح ما كان يحدث أو لماذا اختير لهذه الرسالة والتقاط هذه الصور ، مؤكدالزائر الاستوديو أنه لا يوجد ضمان لظهور روح رحلت،وأنه لايأمر الأرواح بالظهور ، لقد جاءوا وذهبوا كما يحلو لهم، وإذا لم تظهر الصورة كما توقع العميل،سيساعد موملر العميل في البحث في ذاكرته عن أرواح أخرى قد تكون حريصة على التواصل مع الأحياء

اجتذب  موملر المؤمنين بعودة الأرواح وكذلك المتشككين علي حد سواء،ورغم أن التلاعب بالصور كان جزءًا معروفًا في التصوير، ورغم أن العديد من الأشخاص شرعوافي إثبات ممارسات موملر على أنها احتيال،فجاء العديد من المحققينوالمصورين المنافسين ، لاستوديو موملر لمحاولة اكتشاف تلاعباته،رغم ذلك كٌتبت المقالات المؤيدة والمعارضة لتصوير الأرواح في المجلات الشعبية ،ما ساهم في زيادة شعبية موملر.               أصبح الهاوي محترفًا ذو عمل مربح ينميه أقارب الذين قُتلوا في الحرب والحريصين على إقامة نوع من الاتصال الخارق للطبيعة مع أحبائهم.

صورة من مجموعة موملر

 

كان أحد المشككين على وجه الخصوص في عمل موملر هو رجل الاستعراض بي تي بارنوم ، الذي ادعى أن صور الروح كانت نتاج للعائلات الذين غمرهم الحزن.

في أحد الأيام ، وصل المصور المخضرم من بوسطن ج. بلاك إلى استوديو موملر وطالب بتجربة عملية لإثبات حقيقة تصوير الأرواح. جلس لالتقاط صورة وراقب بتركيز المتشكك كل خطوة في ممارسة موملر ، بما في ذلك كيمياء الغرفة المظلمة.

كما يصفها مانسو في كتابه "شاهد بلاك صورته تظهر على الزجاج ، وشكله لا يختلف عن أي صورة تقليدية له ،ولكن فجأة بدأ شكل آخر في الظهور، قال بلاك. 'هل هذا ممكن؟اتخذ الشكل شكلاً شبحيًا لرجل يقف خلف كتف بلاك، هل كان والد المصور العظيم الذي توفي عندما كان بلاك في الثالثة عشرة من عمره؟ وسط الإنبهار ،عرض بلاك دفع ثمن الطباعة ، لكن موملر رفض بأدب"

وهكذا ذهب بلاك متشككا وعاد ممسكا بصورة والده مؤمنا بعودة الروح ،لكن بمرور الوقت ، بدأت الأدلة تتزايد ضد موملرفي إحدى المرات ،صورصورة روحية لامرأة فقدت أخيها مؤخرًا في الحرب الأهلية،لكنالأخ عاد للمنزل بعدها ، ورغم الإحتيال الظاهر،إلا أن المرأة ألقت  باللوم على "روح شريرة" تحاول خداعها.

في حالة أخرى ،تعرّف رجل يزور ستوديو موملر على روح زوجته ، التي لم تكن على قيد الحياة فحسب ، بل التقط موملر صورتها قبل أسابيع ،مثل هذه الحالات الغير  قابلة للشك جعلت الأمور تزداد سخونة فيبوسطن ، فحاول موملر الانتقال لنيويورك عام 1869 ، ولكن سرعان ما قبُض عليه وحوكم بتهمة الاحتيال، جاء ذلك في أعقاب مزاعم بأن موملر اقتحم المنازل لسرقة صور المتوفين ، وأن بعض "الأرواح" التي ظهرت في صوره لا تزال على قيد الحياة ،ووجد نفسه في قلب قضية محكمة ومكلفة،نشرت معظم تفاصيل القضية  في Harper’s Weekly .

الغلاف الأمامي لمجلة Harper's Weekly التي تمت قراءتها على نطاق واسع اعتبارًا من 8 مايو 1869 والتي تصف بالتفصيل محاكمة Spirit Photography لـ William Mumler.

 

 

أخذت المحاكمة  منحنيات عدة فلم يكن الهدف فقط إدانة موملر ولكن معرفة الطريقة التي تظهر بها الأرواح والوصول لحقيقة إن كانتالأشباح حقيقية وأن الروحانية تتمتع بسمعة طيبة أم لا . استدعى المدعون في نيويورك موكبًا من الشهود الخبراء الذين قدموا تسع طرق على الأقل يمكن أن يستخدمها موملر لإنتاج صوره الشبحية.تدخل بارنوم ، رجل الاستعراض كشاهد ، كانت أكثر اللحظات رعبا في المحاكمة عندما قدمت صورة مزيفة عن عمد لإظهار مدى سهولة إنشاء إحدى الصور الروحية لموملر.

ربما يكون موملر قد حقق ذلك من خلال إدخال لوحة زجاجية موجبة مُعدة مسبقًا ، تظهر صورة المتوفى ، في كاميرته أمام لوحة زجاجية حساسة غير مستخدمة ، والتي تستخدم بعد ذلك لتصوير موكله.لا تلتقط تقنية التعريض المزدوج هذه صورة العميل فحسب ، بل تلتقط أيضًا الصورة الشبحية من اللوح الزجاجي،لكن هيئة المحلفين كانت غير مقتنعة. بالتأكيد ، هناك مليون طريقة من الممكن أن يقوم بها موملر لتزييف الصور ، لكن لم يُقدم دليلًا ملموسًا على أنه استخدم أيًا من هذه الأساليب بالفعل . كما ألقى الدفاع بظلال من الشك في أذهان هيئة المحلفين حول إمكانيات تكنولوجيا التصوير الفوتوغرافي.

يقول مانسو: "جادل الدفاع بأن براعة الإنسان يمكنها أن تفعل أشياء كانت تبدو قبل جيل وكأنها سحر محض ،فكيف يمكننا القول أن التصوير الفوتوغرافي لا يمكنه القيام بذلك أيضًا؟"

تمت تبرئة موملر من الاحتيال وإعادته إلى بوسطن ، ولكن الضرر قد حدث ،انتهت مسيرته كمصور روحيفركز جهوده على كيمياء تطوير الصور،في النهاية اخترع تقنية تسمى "عملية موملر" التي سمحت بطباعة الصور الأولى على ورق الصحف ، مما أدى إلى تحول في ممارسة الصحافة.

ولكن قبل أن dنهي موملر باختياره للأبد مسيرته كأشهر مصور روحي في العالم ، رحب بعميل أخير ماري تود لينكولن في عام 1870 ، و على الرغم من علمهاباتهامات الاحتيال الموجهة إلى موملر ، أراد الأمريكيون مثل السيدة الأولى السابقة ، الذين ما زالوا في حداد عميق ، أن يصدقوا.

لينكولن يواسي زوجته

 

يقول مانسو: "كانت هذه آخر صورة التقطت لها في حياتها ،أرادت أنيظل أبراهام لنكولن بجانبها لنهاية حياتها ، إن موملر كان محتالًا بالتأكيد ، لكنه قدم شفاء للقلوب المكلومة عبر الروحانية "

تقودنا هذه القصة للتساؤل هل بإنتهاء مسيرة موملر انتهت الروحانية أم أن تمسك الناس بالأمل يجعلهم يجمدون قناعتهم وينحون منطقهم جانبا في مقابل استرجاع لحظات ثمينة وذكريات لن تعود لولا الفوتوغرافيا ،دعونا نستكشف في المقال التالي .

(يتبع)