رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انتخابات جديدة أم مسارات جديدة؟ «١»




بدعوة رسمية من مصر، عُقدت بالقاهرة منذ فترة وجيزة دورة جديدة من دورات الحوار بين أغلب الفصائل الفلسطينية المهمة على الساحة الفلسطينية، يتقدمها تنظيما «فتح» و«حماس»، والجبهتان: الشعبية والديمقراطية.
وقد استهدف اللقاء وضع الترتيبات الواجبة للتأكد من نجاح الانتخابات المُزمع إجراؤها، ولضمان تحقيقها الأهداف المنشودة، وبما يترتب عليه رأب الصدع بين الفصائل الفلسطينية، ووضع أسس لعلاقات «جديدة» بين أطراف النزاع الداخلى، حتى يتسنى لهم امتلاك الحد الأدنى اللازم لخوض الصراع الدامى ضد عدوهم الصهيونى، الشرس والعنيد، فى الفترة المقبلة.
وهذه الانتخابات المرتقبة ستعقد فى ظل لحظة تاريخية بالغة التعقيد والصعوبة، لم يسبق للقضية الفلسطينية أن مرَّت بأسوأ منها، وأيد ذلك الآتى:
أولًا: التهام العدو قطاعات كبيرة من الأرض الفلسطينية التاريخية، حتى لم يبق فعليًا- بعيدًا عن أشداقه المُتلمظة- إلا أقل القليل، بعد أن استولى تدريجيًا على أغلب ما كان بحوزة الشعب الفلسطينى من أراضٍ، بحجج شَتَّى وذرائع مُتعددة، «أبدع» فى اختلاقها، وافتنَّ فى إخراجها على مدى نحو ثلاثة أرباع القرن، منذ إعلان «الدولة» وحتى الآن.
وقد ساعدت التحولات العالمية، وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على شئون العالم، وانحيازها الأعمى للطرف الإسرائيلى، وخصوصًا مع صعود اليمين «النيوليبرالى» إلى سدة الحكم فى أمريكا وإنجلترا وغيرهما من دول العالم- على توفير مناخات مواتية للعربدة الصهيونية، فأعلنت يهودية الدولة، وتباهت بعنصريتها، وداست على كل التعهُّدات والمواثيق، وراحت تمزق الأرض الفلسطينية بالاستيطان والمصادرات شر مُمزق، وكافأها «ترامب» فأهداها الاعتراف بالقدس المُحتلة عاصمة أبدية لها، وهو وضع لن يجرؤ «بايدن» على المساس به، أو محاولة تغييره.
ثانيًا: استطاع العدو الصهيونى أن يُحيد عددًا كبيرًا من دول العالم، وهذه الدول أبدت فى السابق تعاطفها القوى مع القضية الفلسطينية، وأعلنت عن اعترافها ببعض الحقوق التاريخية لشعب فلسطين، إلا أنها مالت إلى مُمالأة الدولة الصهيونية، انحيازًا لمصالحها الخاصة مع إسرائيل على حساب القضية، فموقف «دول الاتحاد السوفيتى» و«الكتلة الاشتراكية» السابق على سبيل المثال ليس هو موقف روسيا ودول شرق أوروبا، بعد تفككك «الاتحاد» وانفراط عقد «الكتلة». وهذا أيضًا حال الهند التى كانت نصيرًا كبيرًا لقضايا العرب والفلسطينيين فى الماضى، فمع التغيرات السياسية والاجتماعية الداخلية، والأوضاع المُستجدة فى العالم، وفى المنطقة، وبالذات منذ «كامب ديفيد» حتى الآن، أخذت فى التحوُّل حتى صارت من أنصار إسرائيل المُتحمسين، بل ووصل التعاون العسكرى والعلمى، ذوا الطبيعة الاستراتيجية بينهما إلى مدى غير مسبوق فى السنوات الأخيرة!، وليس هذا فحسب، بل حدِّث ولا حرج عما خسرته القضية الفلسطينية على الساحتين الإفريقية والأمريكية الجنوبية، وغيرهما من أنصار ومتعاطفين، لأسباب ودوافع مُتعددة.
وثالثًا: ومع انفراط العقد العربى، وانقسام حكّام العرب شيعًا مُتباغضة، وأحزابًا مُتشاحنة، وفرقًا مُتصارعة، «فى اليمن، وسوريا، ولبنان، والعراق، وليبيا..»، ضعفت شوكتهم، وذهبت ريحهم، وتبددت قدراتهم، وتزايدت الأطماع فى ثرواتهم.
ومع هذا كله، فإن الرائى المُتأمل لا بد أن ينتابه القلق، بل القلق الشديد، للتداعى المؤسف للوضع الفلسطينى، الداخلى والخارجى، وأن يُلقى ببعض اللوم على الطرف الفلسطينى الذى استجاب جانب منه لغوايات وإغراءات أطراف خارجية مُستفزة، ماليًا وسياسيًا كقطر وتركيا وغيرهما، فاستلَّ سكين الفرقة وبلطة التقطيع، وراح يمزق وحدة الجسد الفلسطينى شرَّ مُمزق، ويذهب بشظاياه كل مذهب.
ومن هنا تبدو الأهمية شديدة لاستعادة لحمة الموقف الفلسطينى، واسترجاع قدرته على الفعل، واستجماع هِمَّته على الحركة، والانتقال من وضعية التراجع، والقبول بقواعد لعبة «الأمر الواقع» المُجحفة الخاسرة، التى يفرضها العدو، إلى وضعية أخرى أكثر إيجابية تسمح بتغيير حثيث وإن كان مُستمرًا فى موازين القوة التى مالت بشكلٍ فاجع لغير الصالح الفلسطينى، فى العقود الأخيرة.
فهل تُصلح الانتخابات ما اعوجَّ، أو على الأقل تكون مدخلًا لإصلاحه؟ هذا ما سنحاول الإضاءة عليه فى المقال المقبل.