رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سبق السينما العالمية فى الدفاع عن حق «العبور الجنسى»: «الآنسة حنفى».. الكوميديا فى معركة المرأة


كان عام 1954 حاسمًا فى تاريخ مصر الحديث، ومليئًا بالأحداث السياسية الجسيمة من بدايته وحتى نهايته. كانت ثورة الجيش التى مر على قيامها عام ونصف العام قد تمكنت من السيطرة على مفاتيح الحكم، لكنها كانت تعانى من انقسامات داخلية ومن توقعات ومطالبات شعبية من قبل تيارات متعارضة تتراوح من الإخوان المسلمين إلى الليبراليين، إلى الشيوعيين، وكان لا بد من حسم هذه الصراعات. فى بداية العام تم إعلان مصر جمهورية برلمانية، والإعلان عن إجراء انتخابات برلمانية، قبل أن يتم إلغاء الفكرة لاحقًا، كما تمت الدعوة إلى انتخابات لاختيار جمعية تشريعية لوضع دستور جديد للبلاد، وفى بداية العام استقال عبدالناصر من منصب رئيس الوزراء، ثم عاد للمنصب فى منتصف العام، وبعد محاولة اغتياله فى المنشية فى نهاية العام، تمت الإطاحة بالرئيس محمد نجيب المنحاز للإخوان، وتولى عبدالناصر بدلًا منه.
فى بداية 1954 أيضًا، وبالتحديد فى السابع من مارس، ينزل إلى الأسواق فيلم يثير ضجة عاتية ويحقق نجاحات هائلة، يتناول بشكل كوميدى ساخر وصاخب الأفكار المصطرعة داخل المجتمع والعقل المصرى. الفيلم هو «الآنسة حنفى» الذى كتبه وأنتجه الصحفى المعروف جليل البندارى وأخرجه فطين عبدالوهاب ولعب بطولته نجم الكوميديا إسماعيل يس، والذى يدور حول قصة رجل يتحول، عقب عملية جراحية، إلى امرأة!
قبل خمس سنوات كاملة من الفيلم الأمريكى «البعض يفضلونها ساخنة» إخراج بيلى وايلدر وبطولة مارلين مونرو، الذى يعتبره النقاد والمحللون واحدًا من أوائل الأفلام التى صورت المثلية والعبور الجنسى والفوارق بين النوعين بشكل غير مباشر من خلال رجلين يتنكران فى هيئة امرأة، قدمت السينما المصرية فيلم «الآنسة حنفى» الذى يدور حول رجل يتحول فعليًا إلى امرأة، بشكل مباشر ومؤيد بوضوح لحق المرء فى تغيير جنسه، وحق المرأة فى التمتع بجميع الحقوق التى يتمتع بها الرجل.
حنفى الأمريكانى
كان مؤلف ومنتج الفيلم جليل البندارى صحفيًا فنيًا اشتهر بسخريته ورشاقة قلمه وتعبيراته الخالدة عن الفنانين مثل وصفه لعبدالحليم حافظ بـ«العندليب الأسمر» وصباح بـ«الشحرورة» أو وصف لقاء أم كلثوم وعبدالوهاب فى أغنية «أنت عمرى» بـ«لقاء السحاب». ألف جليل البندارى أيضًا عددًا من الكتب عن الفنانين من أشهرها كتابه الرائع «أسرار النجوم»، وكتب عن أشهر راقصات العصر، تحولت ثلاث سير منها إلى أفلام «وداد الغازية»، «شفيقة القبطية» و«بمبة كشر»، كما كتب عددًا من السيناريوهات للسينما، ومعظم كتبه وسيناريوهاته مقتبسة من أحداث أو شخصيات من الواقع. وقد استلهم البندارى فيلمه «الآنسة حنفى» من واقعة هزت مصر وكانت محور حديث الصحف لأسابيع عام 1947، وهى تحول إحدى الفتيات إلى شاب عقب عملية جراحية.
وحسبما نشرته الصحف آنذاك، فإن اسم الفتاة الحقيقية هو فاطمة إبراهيم داوود من محافظة الدقهلية توفى والدها وتزوجت والدتها بآخر لتتركها وشقيقاتها فى رعاية الجد الذى توفى بعد فترة قصيرة، فخرجت فاطمة للعمل ونجحت فى تحمل الأعمال الشاقة، وتقدم لخطبتها أكثر من شاب وكانت ترفض وبعد ضغط الأهل اعترفت لهم أنها تشعر بالنفور تجاه الرجال وتميل للنساء ولفتت أنظارهم إلى خلو جسدها من الملامح الأنثوية. تم عرض الفتاة على أحد الأطباء بمدينة الزقازيق وأوصى بعرض حالتها على أطباء قصر العينى فى القاهرة، فقرروا إبقاءها فى المستشفى لإجراء عملية جراحية خاصة، تحولت بعدها إلى شاب كامل الرجولة، أطلق على نفسه اسم «على»، وبعد فترة تزوج فتاة من قريته تدعى فاطمة.
فى ديسمبر 1952 تنشر مجلة «الإثنين والدنيا» خبرًا آخر عن تحول جندى أمريكى سابق يدعى جورج جورجنسون إلى امرأة اسمها كريستين، وتبدأ خبرها بالعبارة التالية: «سمعنا كثيرًا عن تحول النساء إلى رجال، ولكن هذه هى المرة الأولى التى نسمع فيها بعكس ذلك».
بعض من كتبوا عن الفيلم أشاروا إلى الواقعة الأولى، ولكن أعتقد أن الواقعة الثانية هى التى حركت البندارى لكتابة فيلمه، والفارق بين القصتين واضح: فالمجتمع يمكن أن يتقبل تحول امرأة إلى رجل، ولكن العكس يهز قناعات ونفوس الرجال أكثر، ويثير مخاوف أكبر تتعلق بالمثلية وبهشاشة الذكورة، وهنا بالتحديد تكمن شجاعة جليل البندارى السابقة لعصرها.
بعد «الآنسة حنفى» بثلاثين عامًا، وبالتحديد فى 1988، سيهتز المجتمع المصرى بشدة من خبر التحول الجنسى للشاب سيد، الطالب بطب الأزهر، إلى فتاة اسمها سالى، فيتم فصله من الكلية، ورفض طلبه بالالتحاق بكلية البنات، بل وتحويل الطبيب الذى أجرى له العملية إلى النيابة العامة للتحقيق!
فى 2020 سيهتز المجتمع المصرى مرة أخرى لخبر تحول ابنة الفنان هشام سليم إلى رجل، وسوف نقرأ تعليقات على مواقع التواصل الاجتماعى التى تفصلها عن وسائط زمن «الآنسة حنفى» أميال ضوئية من التطور التكنولوجى والفكرى، تعليقات أكثر رجعية وكراهية من التى كانت تتردد فى مصر منذ سبعين عامًا!
نجاح مدوٍ.. تجارى وفنى
حتى السابع من مارس 1954 حينما عرض فيلم «الآنسة حنفى» لم يكن فطين عبدالوهاب ولا إسماعيل يس يحظيان بالنجاح أو المكانة التى أصبحا عليها بعد هذا الفيلم. يكتب أشرف غريب فى كتابه «فطين عبدالوهاب رائد الفيلم الكوميدى فى مصر» (مطبوعات مهرجان القاهرة - 2014):
«كان فطين بحاجة إلى قنبلة سينمائية تعيد تصنيفه بين المخرجين الكبار، وهذا ما حققه له فيلم (الآنسة حنفى)، أما إسماعيل يس الذى كان قد قدم قبل هذا العمل مائة واثنين وأربعين فيلمًا، فقد كان يعانى التأرجح بين الأدوار الأولى والبطولات المشتركة..وعلى ذلك فإنه كان بانتظار العمل الذى ينتزع به اعتراف الجمهور والنقاد والمنتجين بأنه جدير بالبطولة المطلقة التى لا يزيحه عنها أحد. وفى الوقت ذاته بحاجة لمخرج يستطيع أن يبرز طاقاته الكوميدية ويعيد صياغة شخصيته الفنية بعيدًا عن سيل الاتهامات والانتقادات التى كانت تلاحقه. ولم يكن هذا الفيلم سوى (الآنسة حنفى)، ولم يكن هذا المخرج سوى فطين عبدالوهاب».
الفيلم، كما يشير محمد عبدالفتاح فى كتابه «إسماعيل يس فى السينما» (الهيئة العامة للكتاب - 2012) «هز القاهرة، بل مصر كلها فى ذلك الوقت».
يستخدم صناع الفيلم الثلاثة، جليل البندارى وفطين عبدالوهاب وإسماعيل يس، سلاح الكوميديا لتمرير أكثر الأفكار خطورة فى المعركة التى كانت تشهدها مصر بين التقدم والرجعية على أعتاب فترة الخمسينيات، وهى المعركة الأساسية التى تخوضها بأشكال مختلفة منذ عصر محمد على وإلى الآن. وحتى يمكن فهم جرأة «الآنسة حنفى» وسر نجاحه وبقائه على مدار حوالى سبعة عقود منذ عرضه الأول وإلى الآن، يحتاج الأمر إلى تحليل تفصيلى أحاول أن أفعله خلال السطور التالية.
يبدأ الفيلم بلقطة فوتوغرافية ثابتة لبطلى الفيلم إسماعيل يس وماجدة تنزل عليها عناوين الفيلم على مقطع موسيقى مرح معروف باستخدامه فى حفلات الزفاف. اللقطة التى يختارها فطين عبدالوهاب تمهد لتبادل الأدوار بين الجنسين القادم: إسماعيل يس يعقد يديه حول وسطه ويميل برأسه خجلًا، بينما تميل ماجدة نحوه رافعة إحدى ذراعيها، مستفهمة، أو مهددة، وتبدو على وجهها علامات الغضب.
لمسة مماثلة يضعها خطاط العناوين على اسم «الآنسة حنفى»، إذ يزين كلمة «حنفى» ببعض الورود الناعمة التى تميز ملابس النساء.
مع نهاية العناوين يتكرر المقطع القصير المميز لحفلات الزفاف مع أصوات زغاريد، ثم يبدأ الفيلم داخل الحارة، محل الجزارة والعجلاتى والمقهى، وزغاريد تجوب الحارة، أم ذاهبة لصباحية ابنتها العروس الجديدة، بصحبتها ثلاث نساء بالملايات اللف، يحملن أسبتة محملة بالطعام والهدايا، ونواعم وفلة تفتحان النافذة لتطلا على الحارة، تزغرد فلة وتبادلها المرأة الزغرودة، وتهنئ فلة المرأة وهى تسأل: «صباحية مباركة يا ست أم محاسن، يعنى ياختى صابحة مبدرة يعنى هما لحقوا يناموا؟» بطريقتها التى تشير لشىء ما تجيبها «أم محاسن»: «قال على رأى المثل..العروسة للعريس والجرى للمتاعيس. عقبال ما نفرح بنواعم».. تشكرها نواعم بخجل: «أنا متشكرة قوى يا طنط». تجيب المرأة: «إن شاء الله نفرح بيكى فى بيت العدل» ثم تتمتم بصوت خفيض: «قال طنط قال؟ يا ما نعيش ونشوف». تزغرد فلة مرة أخرى، ثم تستدير لابنتها معلقة: «أنا عارفة الأشكال دى بيلاقوا عرسان يتجوزوها إزاى؟» الحارة مغطاة بالأعلام، الهلال والنجوم، وبعض الرجال يجلسون على المقهى يشاهدون ما يحدث دون تعليق.
شروق الأنثى وغياب الرجل
من اللحظة الأولى يأخذنا الفيلم إلى عالم النساء الحسى، الصاخب، الممتلئ بالتنافس والنميمة. للحضور النسائى فى هذا الفيلم المساحة الأكبر.
داخل الشقة يظهر حنفى مفاجئًا زوجة أبيه وابنتها، مرتديًا بدلة كاملة وربطة عنق، بمظهر رجولى واضح، فاردًا ظهره واضعًا يديه فى جيبى بنطاله، رافعًا رأسه لأعلى مثل جندى، صائحًا ومهددًا المرأتين: «ها.. مية مرة قلت الشباك دا ميتفتحش.. أنا معنديش حريم يبصوا من الشباك»، يردد حنفى: «أمى الله يرحمها قبل ما تموت قلت لها نفسك فى إيه. قالت لى أبص من الشباك. قلت لها لأ، وبرضه ماتت من غير ما تبص من الشباك.. أنا راجل جد.. أنا راجل حمش»، «من هنا ورايح رغى من الشبابيك ممنوع، خروج من البيت ممنوع، والمحزق اللى على جتتك دا ممنوع. التكنيكلور اللى فى خلقتك دا ممنوع».. يصل المعلم كتكوت (عبدالفتاح القصرى) صاحب محل الجزارة ووالد حنفى، لكنه يختلف عن أى جزار آخر فى السينما المصرية، إنه رقيق، رومانسى، يحاول الدفاع عن المرأتين فى مواجهة حنفى، ولكن دون حماس، فطاقة الرجل، وعقله، فى مكان آخر، هو تربية الحمام، وهو يصل حاملًا حمامة بين يديه يدللها، وكل حمامة لديها اسم، وزوج، يهتم كتكوت بعلاقتهما، ويحاول صلح المتخاصمين، وتشجيع الذكر الخجول منهم على الإنجاب من أنثاه، أما حوائط البيت فمليئة بتذكارات الحمام الذى رحل، منها شمشون ودليلة، وعنتر وعبلة، وعطيل وديدمونة، وكل تذكار يحمل صورة أو تمثالًا صغيرًا للحمامة، وتاريخ مولدها ووفاتها. أما حنفى، فرغم الخشونة التى يحاول الظهور بها، فإن المرأتين لا تخشيانه، خاصة نواعم. يذهب حنفى عقب مشاجرته مع المرأتين بإحضار مسامير، ويبدأ فى تثبيت الشباك، لكن نواعم تتسلل وتشبك إحدى قدميه فى الكرسى، فيقع على رأسه صارخًا، ويستجدى المرأتين لمساعدته، وعندما ينهض تقوم نواعم بوضع خشبة أمامه ليتعثر ويقع مرة أخرى.
منذ اللحظة الأولى، إذن، نحن أمام «رجولة» ظاهرية، مفتعلة، حتى فى أوج تظاهرها، هى مدعاة لسخرية المرأة. أثناء المشاجرة السابقة دافعت نواعم عن حقها، وردت على مطالبة حنفى لها بالاكتفاء بالنظر إلى الشارع من وراء «شيش» النافذة: «الستات فى أوروبا بتقف تخطب فى البرلمان وإحنا لسه هنقف ورا الشيش»، وتؤكد أمها «الأمية» على الفكرة نفسها مدافعة عن حقوق المرأة وتقول لزوجها: «المرأة دلوقتى لها نفس حقوق الرجالة.. مش كده يا معلم؟».
نماذج الرجال فى الفيلم كلها ضعيفة، بلا استثناء: فى محل الجزارة يعمل أبوسريع (رياض القصبجى، الشهير بالشاويش عطية فى أفلام إسماعيل يس)، ورغم مظهره الخشن، وعمله كجزار، فإنه يرتجف رعبًا من طليقته زكية (وداد حمدى) الشهيرة بلقب «زكية ست أشهر» بسبب مطاردتها لطليقها وإصرارها على سجنه، وهى تأتى بصحبة الشرطى كل شهر لتحصل على نفقتها، التى يقترضها أبوسريع عادة من المعلم كتكوت أو حنفى، وزكية لا تعنيها النفقة بقدر ما تتمنى أن يعجز عن السداد ذات مرة، فيتم سجنه، وهو ما سيحدث بالفعل قرب نهاية الفيلم، وأبوسريع يحب فيفى التى كانت حنفى، على الرغم من أنه ظل لوقت طويل بعد تحولها يعاملها على أنها صديق عمره القديم ويتحدث عنها ويخاطبها بضمير الهو.
نموذج آخر هو حسونة بك (سليمان نجيب) الذى اعتاد لعب دور الباشا فى أفلام ما قبل 1952. إنه يحمل لقب بك الذى اشتراه بأمواله، وحصل عليه يوم 21 يوليو، قبل يومين من قيام ثورة يوليو التى ألغت الألقاب، وهو يسكن فى الحارة، ويعانى الفقر، بعد أن أقرض «خواجة» إيطالى عشرة آلاف جنيه ولم يحصل منه على الإيصال، وطوال الفيلم يردد حسونة عبارة «آه لو كنت خدت الوصل؟!». فيما بعد سيرغب حسونة فى الزواج من صديقه حنفى الذى أصبح فيفى، وعندما ترفضه فيفى وتهرب لأنها تحب أبوسريع، يتجه إلى سنية شكل التى تبادله الإعجاب.
النموذج الرابع هو حسن (عمر الحريرى) طالب الطب البيطرى الذى يحب نواعم وتحبه ويلتقيان على سطح البيت أمام «غية» حمام المعلم كتكوت، ونواعم هى دائمًا الأجرأ فى هذه اللقاءات، ولا يفعل حسن شيئًا يذكر فى الفيلم، حتى عندما يتم تزويج نواعم من حنفى، تطلب منه أن يهربا ليتزوجا، ولكنه يرفض ويصف عرضها بأنه «خيال فى خيال.. مستحيل»، ولا يظهر ثانية إلا عندما يصاب حنفى بمغص حاد ليلة زفافه على نواعم ينقل على إثره إلى المستشفى، حيث يتبين أن لديه مشكلة ويتم تحويله إلى أنثى، ويكتفى حسن بأن يقول لنواعم: «مين كان يصدق بعد ما يتكتب كتابكم تحصل الحكاية دى ويبقى لنا أمل فى بعض!؟».
مع ذلك فحسن هو النموذج غيرى الجنس الوحيد الواضح فى الفيلم، بينما تعانى هوية بقية الرجال من التباس واضح. من النماذج الأخرى الملفتة شخصية مغنى الأفراح التى يؤديها شفيق جلال، فهو يتزين بشكل مبالغ فيه، ورغم الشارب الرفيع الذى يكسو وجهه، إلا أن ملامح وجهه وأسلوب غنائه ناعم ويحمل لمسة خنوثة ظاهرة، سوف نجدها تتكرر فى شخصيات شفيق جلال السينمائية بعد ذلك، مثل دوره فى «خللى بالك من زوزو» مثلًا. الطريف أيضًا أنه حتى المعلم كتكوت، الذى يغازل زوجته فلة دائمًا ويبادلها قبلات «سينمائية»، ينتهى به الفيلم مصابًا بمغص حاد مماثل للمغص الذى أصاب ابنه!
من المثلية إلى حرية المرأة
قد توحى مشاهد الرجال فى الفيلم، خاصة مشاهد الغزل التى تجمع فيفى، التى كانت حنفى، بـ«أبوسريع»، ومنها مشهد يحاكى مشهد الشرفة الشهير فى «روميو وجولييت» شكسبير، ومشهد آخر يحاكى مشهد قبلة السلم بين حسين صدقى وفاطمة رشدى فى فيلم «العزيمة»، ثم مشهد الزفاف الأخير بين فيفى وأبوسريع، قد توحى بطبقات مستترة من المثلية الجنسية، اعتادت السينما المصرية على تشفيرها وتغليفها بالكوميديا، ومع أننا لا ننفى ذلك، إلا أن «الآنسة حنفى» مشغول بأمر آخر أعمق، وهو فحص الفوارق بين الجنسين والتأكيد على هشاشة هذه الفوارق، وهشاشة الذكورة التقليدية بشكل عام، والتأكيد على قوة المرأة التى تؤهلها للمساواة والحرية واتخاذ قراراتها بنفسها.
عندما يتحول حنفى إلى فيفى يكون كمن عبر بحرًا إلى الضفة الأخرى فبدأ يرى الأشياء معكوسة من الجانب الآخر، ويبدأ فى اكتشاف المعاناة التى تتعرض لها النساء، كما يبدأ فى الإحساس مثل النساء، والتفكير مثلهن.
فى المقابل الحضور الأنثوى فى الفيلم أكثر كثافة وتماسكًا، وبينما يتسم الحوار الذى ينطق به الرجال، باستثناء حسن، بالمبالغات المضحكة واللا واقعية، فإن حوارت النساء أكثر واقعية ومنطقية، إذ تتحدث فلة ونواعم وجاراتهما دائمًا عن أمور يومية وأشياء ملموسة، وهو أمر ينطبق كذلك على الجسد الأنثوى الذى يحتل المساحات الأكبر والأكثر جاذبية من الفيلم. بجانب ماجدة التى تظهر هنا فى واحدة من أجمل إطلالاتها، تبدو النساء الشعبيات فلة وسنية شكل والدلالة والجارة ذوات حضور أنثوى واضح، وفى مشاهد الحارة والزفاف يطل دائمًا عدد من النساء المجاميع (الكومبارس) مختارات بعناية، ومعظمهن يرتدين ملابس مودرن، يضاف إلى هذا احتواء الفيلم على ثلاث رقصات متنوعة لنعيمة مختار وثريا سالم والراقصتين ليز ولين، يحتفى خلالها فطين عبدالوهاب بمفاتن وحسية الأنثى. وفطين عبدالوهاب واحد من أفضل المخرجين المصريين الذين أجادوا تصوير المرأة وإبراز أنوثتها، وفى الوقت نفسه قوتها داخل الكادر. ولنذكر هند رستم فى «ابن حميدو» أو شادية فى معظم الأفلام التى قدمتها مع فطين عبدالوهاب.
قد توحى عمليات «تأنيث» الرجال التى يحتويها «الآنسة حنفى» بوجود مثلية جنسية متنكرة، ولكن تركيز الفيلم على النساء وإمالة كفة الميزان لصالحهن، والدفاع المباشر عن حريتهن وعن حرية التوجه الجنسى لأى فرد بشكل عام، إنما يبين أن الفيلم مشغول بشىء آخر غير الجنسية المثلية، التى قد تكون تعبيرًا عن الاحتفاء بالذكورة والذكور، ولكن بالأنوثة وحقها فى الوجود فى مجتمع يرغب قطاع كبير من رجاله فى محو وإخفاء هذه الأنوثة.
ويشير جاراى منيكوتشى فى مقاله عن «المثلية الجنسية فى السينما المصرية» (2002) إلى أن «ارتداء إسماعيل يس لملابس النساء لا يقصد به أن يكون مثيرًا، ولكنه يتكون بالأساس ملابس نسائية تقليدية تحمل القليل جدًا من المعنى المزدوج للمثلية الجنسية المرتبط بالتنكر فى هيئة الجنس الآخر، بل يخدم ارتداء ملابس النساء هنا كأداة لمناقشة القضايا المتعلقة بالتمييز بين الجنسين والتحول الثقافى من مجتمع التقاليد إلى نوع وطنى خاص من الحداثة.»
إن الموقف من المرأة هنا مرتبط بوضوح بقضية الحداثة والنهضة بشكل عام، وبالنهضة المرتبطة بطموحات وأحلام ثورة يوليو فى بداية عهدها بشكل خاص.

الملهى والمستشفى والصحافة.. معالم الحداثة
يشير «الآنسة حنفى» إلى الواقعة الحقيقية والضجة التى أثارتها من بعيد، من خلال مشاهد لورق الصحف يدور فى ماكينة الطباعة، ثم باعة الجرائد وهم يجرون فى الشوارع حاملين الجرائد صائحين: «اقرأ الخبر العجيب.. الراجل اللى قلب ست»!.
فى كثير من أفلام القرن العشرين كان مشهد المطبعة وباعة الجرائد فى الشوارع علامة على انتشار الخبر وتداوله بين الناس، مثلما تفعل مواقع التواصل الاجتماعى الآن. الصحافة واحدة من أبرز معالم المجتمع المدنى الحديث، وحسونة بك، أكثر السكان تعلمًا وتحضرًا يقرأ الصحف دائمًا، وعندما تهرب فيفى نراه يقرأ على المعلم إعلانا فى الصحيفة يطالبها بالعودة، واضح أنه قام بكتابته وتسليمه للصحيفة بنفسه. مشهد دوران المطبعة وباعة الصحف هو المشهد الثالث الذى تخرج فيه الكاميرا من الحارة لثوان أو دقائق معدودة. المرة الأولى كانت فى الملهى الذى يذهب إليه حنفى وصديقاه للسهر والشرب، فى الليلة السابقة لزفافه على نواعم، والمرة الثانية ليلة زفافه عندما ينقل إلى المستشفى. كل من الملهى والمستشفى والصحافة مظاهر للمدنية تحيط بالحارة، ورغم أن كل أحداث الفيلم تقريبًا تدور فى الحارة، إلا أنها حارة يسكنها الفقير والغنى، الجاهل والمتعلم، الجلباب والبدلة، والملاءة اللف والفساتين المكشوفة، إنها حارة متصالحة مع الحداثة بشكل كبير.
المدهش فى شخصية المعلم التى يؤديها القصرى ببراعة هى أنه معلم متحضر، لا يمارس سيطرة «سى السيد» على بيته، كما كان يفعل حنفى عندما كان رجلًا، والمعلم يتقبل تحول ولده إلى امرأة ببساطة، على عكس زوجته التى تواصل النحيب والعويل، وعندما تقول له فى مشهد لاحق «ابنك بقى بنت» يجيبها ببساطة: «وماله مش خلقة ربنا؟!»، وهو فى النهاية يتقبل قيام فيفى بالهرب والزواج سرًا من أبوسريع وتحمل منه، ويعقد لها قرانًا بعد أن تنجب توائمها الأربعة. هذه فى حد ذاتها شخصية نادرة فى تاريخ السينما المصرية.
من أبرز مشاهد الفيلم أيضًا تلك التى تعقب تحول حنفى لفيفى، والتى تبدأ بلقطة مقربة طويلة تتحرك خلالها الكاميرا على قدم وساق أنثوية ترتدى الجورب، يتبين أنها ساق إسماعيل يس! لسنا هنا إزاء رجل يتنكر فى هيئة امرأة لسبب أو لآخر، ولكننا أمام امرأة بالفعل، وإسماعيل يس يبدع فى أداء مشاهده كامرأة أثناء وضعها لزينتها أو تقبلها للغزل أو غيرتها من أختها نواعم، وهى أكثر مشاهد الفيلم إثارة للضحك، والقلق أيضًا!
تفتح فيفى النافذة وتنظر نحو أبوسريع فى المحل، وأختها نواعم الشامتة تستغل تحول أخيها غير الشقيق لفتاة لتمثل به كما كان يفعل بها. وهى تغلق النافذة عندما تكتشف أنها تبادل أبوسريع الغزل من وراءها، وتردد على مسامعه العبارات التى كان يرددها لها فى بداية الفيلم: «الشباك دا ممنوع، وخروج السينما ممنوع، والمحزق اللى على جتتك دا ممنوع. التكنيكلور اللى فى خلقتك دا ممنوع».
فى مشهد لاحق تتصالح الأختان وتقول نواعم لفيفى: «مش عيب الراجل يتقلب ست ومش عيب الست تتقلب راجل، لكن العيب أن الراجل يكون أنانى ويحرم البنت من التعليم ويخليها تعيش فى سجن زى إللى إحنا عايشين فيه دا».
بعد المعركة
فى الوقت الذى كان يعرض فيه فيلم «الآنسة حنفى» ويحقق أعلى الإيرادات، كان هناك حدث آخر فى مصر تتداول أخباره الصحف، وهو اعتصام عدد من النساء وإضرابهن عن الطعام تحت قيادة واحدة من أبرز المدافعات عن حقوق المرأة فى تاريخ مصر، وهى الدكتورة درية شفيق. وكان هدف الاعتصام المطالبة بأن يكون للمرأة نصيب فى مقاعد الجمعية التأسيسية، وأن تدلى بصوتها فى الانتخابات التى ستجرى لاختيار أعضاء وعضوات الجمعية، وقد شارك فى هذا الاعتصام عدد من الفنانات، منهن زينات صدقى وكوكا ومديحة يسرى التى ذهبت بمرافقة زوجها المغنى والممثل محمد فوزى لإعلان تضامنهم مع مطالب المعتصمات، وهو الحدث الذى غطته مجلة «الكواكب» تحت عنوان «صوت الفن فى معركة المرأة» فى عددها الصادر فى 23 مارس 1954. حقق الاعتصام أهدافه بالفعل، وأسفر عن حصول المرأة المصرية على حق التصويت والترشح فى دستور 1956.
.. ولكن فى العام التالى مباشرة، سوف تعتقل درية شفيق بسبب نقدها السياسى، وتوضع تحت الإقامة الجبرية، وتعيش فى عزلة حتى انتحارها فى 1975.