رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

امرأة عارية تحرس الأوسط.. أساطير وخرافات حول الأهرامات

الأهرامات
الأهرامات

مع انفصال المصريين عن تاريخهم ولغتهم، نسب المسيحيون الأوائل الهرم لفكرة الفيضان واعتُبر أنه مساوٍ لسفينة نوح، وهو الاعتقاد الذي ساد لدى البعض حتى القرن الثامن عشر، كما اعتقد الناس بأن الهرم هو بيت أسرار المعرفة وعلوم الحكمة وخزائن التنجيم. ولم يختلف الأمر كثيرًا لدى المؤرخين العرب والمسلمين، فقد جمع المقريزي عددًا كبيرًا من القصص الأسطورية حول الأهرامات، ومن بين تلك القصص قصة الملك سوريد الذي قيل عنه أنه زيَّن جدران وأسقف حجرات الهرم الأكبر بالنجوم والكواكب وملأها بالكنوز التي لا تحصى.

تذكر لنا الأسطورة أن هذا الملك قام ببناء الهرمين ليسبقا الفيضان بـ 300 عام، حيث رأى سوريد الملك في منامه أن الأرض تنقلب بسكانها والناس يهيمون على وجوههم، بينما تتخبط النجوم في بعضها البعض مصحوبة بصوت رهيب وتتساقط على الأرض الواحد تلو الآخر، تلك الرؤيا أصابت الملك بالحزن ولم يقص منامه على أحد لكنه شعر بأن حدثًا جسيمًا سوف يحدث للعالم.

وبعدها بأيام عادت رؤيا أخرى للملك بأن النجوم تأتي إلى الأرض على هيئة طيور بيضاء تقبض على الناس وتقذف بهم بين جبلين هائلين سرعان ما ينغلقان عليهم، حينها استيقظ سوريد الملك رعبًا وجمع كبار الكهنة من كل مقاطعات مصر وبلغوا 130 كاهنًا وأخبرهم بما رأى في المنامين، فأخبره الكاهن الأكبر ويدعى "فليمون" برؤيا مشابهة رآها في منامه بأنه كان مع الملك في مدينة أمسوس وأصبحت السماء عند رأسه أشبه بالقبة وتتساقط عليه النجوم والناس في فزع شديد كما رأى المدينة تنقلب رأسا على عقب بينما يخرج من السماء رجالٌ يهبطون بعصي يضربون بها الناس لأنهم لا يؤمنون بإلههم، وحين سألهم فليمون عن الهرب من الهلاك فأخبروه بأن السبيل في الانضمام إلى سيد المركب وهو إيذان بحدوث الفيضان، حينها أمر الملك ببناء الأهرام كي تسجل بجدرانها وأسقف حجراتها النجوم والكواكب وجميع العلوم في عصره كما حوت حجراتها ما لا يمكن إحصاؤه من الكنوز الثمينة كالأحجار والجواهر والأسلحة المصنوعة من الحديد الذي لا يصدأ والزجاج السحري الذي ينثني من دون أن ينكسر، حتى إذا ما انحسر الفيضان واكتمل بعث مصر تعود البلاد مأهولة كما كانت.

وتستمر الأسطورة بموت الملك سوريد ودفنه بالهرم الشرقي "الهرم الأكبر" بينما دفن أخوه "حوريب" في الهرم الغربي "هرم خفرع" أما ابن حوريب ويدعى كاروراس فقد دفن في الهرم الأخير، ويمكن تحليل شخصيات تلك الأسطورة بأن سوريد الملك هو سوفيس والذي كان اسم الملك خوفو في العصر المتأخر، بينما كان كاروراس هو ميكرينوس أي منكاورع باليونانية، في حين أن أمسوس ما هي إلا تحوير لاسم العاصمة منف.

ويوافق المسعودي رأي المقريزي بأن الهرم "يحوي معرفة أسرار الفلك وحركة الكواكب والأفلاك في دوراتها ومداراتها وعلاقاتها بدورة الأحداث في العالم بالماضي والحاضر ونبوءات المستقبل، فشكل الهرم وأبعاده ومقاساته وتفاصيله الهندسية قد خططت بدقة متناهية تعبر عن القواعد الأساسية لتوازن الطبيعة ونظم الفلك والتنجيم"، كما يتفق الرحالة أبو الصلت في فكرة بناء الهرم لحماية العالم من الطوفان، قائلًا: "زعم نفر من الناس أن هرمس الأول المدعو بالمثلث (النبوة والملك والحكمة)، وهو الذي يسميه العبرانيون خنوخ بن يرد بن مهلائيل بن قينان بن آنوش بن شيث بن آدم، وهو إدريس، واستدل من أحوال الكواكب على كون الطوفان يعم الأرض، فأكثر في بنيان الأهرام وإيداعها الأموال وصحائف العلوم، وما يشفق عليه من الذهاب والدروس حفظا لها واحتياطًا عليها"، وأن "هرما الجيزة هما مقبرتا كل من هرمس والبطل الأسطوري أجاثوديمون، بينما كان الهرم الثالث لصاب بن هرميس".

ويتحد أبو الصلت مع خرافة المقريزي في قوله "إن الذي بناها ملك اسمه سوريد بن سهلوق بن سرياق"، ويتفق مع المسعودي في قوله أن الذي بنى الهرمين المحاذيين للفسطاط: شداد بن عاد، وتحقق أن بانيها سوريد لرؤيا رآها وهي آفة تنزل من السماء، وهي الطوفان"، ويذكر ابن عفير أنها من بناء "جياد بن مياد بن شمر بن شداد بن عاد ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام"، بينما نجد ابن حوقل يناقش ما قيل عن الأهرام فيقول "وقد ذكر قوم أنهما قبران وهما ليسا كذلك وإنما حدا بصاحبهما أن عملهما أنه قُضِى بالطوفان وهلاك جميع ما على وجه الأرض إلا ما حصن في مثلهما فخزن ذخائره، وأمواله فيهما وأتى الطوفان، ثم نضب فصار ما كان فيهما إلى بيصر بن نوح". بينما ذكرهما البيروني في قوله "أن أهل المغرب لما أنذر به حكماؤهم (أي الطوفان) فبنو أبنية كالهرمين المبنيين في أرض مصر، إذا كانت الآفة من السماء دخلناها، وإذا كانت من الأرض صعدناها، فزعموا أن آثار ماء الطوفان، وتأثيرات الأمواج بينة على أنصاف هذين الهرمين لم يجاوزهما".

ويتضح لنا مدى تأثير القصص الديني على الناس في وصف طبيعة الهرم وخاصة قصة الطوفان، وإن كان يختلف المؤرخون العرب عن نظرائهم الإغريق والرومان في رؤيتهم لفائدة الهرم، فقد اعتبروه ملجأً لحماية علومهم السرية وأسرار معرفتهم وخلاصة فنونهم وأموالهم وذهبهم، وادخروها لمن يأتي بعدهم وينجح في حل طلاسمها وقراءة رموزها، مما يعني أنهم وصلوا إلى قدر من الحكمة والعلم لم يتسن لغيرهم من الأمم، وهو ما ينفي نظرتهم لكون ملوك المصريين جبارين وطغاة استعبدوا شعوبهم وسخروهم فيما لا فائدة منه من أجل مجد شخصي كما ادعى الإغريق والرومان، وإنما كان في مخيلتهم أن الهرم الأكبر صرحًا عظيمًا يخدم الإنسانية.

وانتشرت بين المؤرخين القدامى خرافة تنص على أن واجهات الهرم الأكبر كانت مكسوة بطبقة من الحجر الأملس المصبوغة باللون الأحمر، وتملأ الكسوة الهرم وممراته الداخلية بالنقوش والطلاسم باللونين الأسود والأبيض، حيث يذكر المؤرخ اليهودي يوسيفوس مع أواخر القرن الأول الميلادي أن الهرم كانت واجهته مطلية باللون الأحمر تغطيها نقش ورموز جعلته أشبه بالمزولة ليتبين منها مقياس الفيضان.

ويأتي عبد اللطيف البغدادي ليصف لنا حال الهرم بأن الناس كانوا يدخلون إليه من خلال ذلك الممر الذي فتحه الخليفة العباسي المأمون، وأنه دخل بنفسه جزءً منه ولكنه من التعب وشدة الفزع عاد نصف ميت. كما ذكر أن الهرمين كانا "مغطان بأحجار ملساء عليها نقوش وطلاسم لم يجد في مصر من يعرف منها شيئا تصل إلى عشرات الألوف من الصفحات"، يحتمل أن تكون كتابات الرحالة والمعروفة باسم "الجرافيتي" وليست نقوش هيرغليفية، وهو ما يقاربه ما ذكره المؤرخ أبو زيد البلخي.

ويذكر القزويني أن "من الناس من يزعم أن إدريس أمر ببناء الأهرام وإيداعها الأموال وصحائف العلوم؛ احتياطا عليها وحفظا لها، ومنهم من قال إنما عملوها خوفًا من الطوفان"، بينما ينص السيوطي بأن الهرم: "فيه أخبار الكهنة في توابيت من صوان أسود، مع كل كاهن مصحفه وفيها عجائب صنعته وحكمته وسيرته وما عمل من العلوم الغامضة والطلسمات ودونوا به ما كان وما سيكون من أول الزمان وحتى آخره". أما الجاحظ فيذكر أسرار الهرم بأن قال "به سبعة دهاليز وكل دهليز على اسم كوكب من الكواكب السبعة، وجدرانها منقوشة بعلوم الكيمياء والسيمياء والطلسمات والطب، ويقال أنه كان به جميع ما يحدث في الزمان حتى ظهور الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وأنه كان مصورًا فيها راكبًا ناقة!".

ويعود لنا كل من المقريزي والتلمساني بعدة روايات خرافية عن الأهرام والتي يبدو أنها بحواديتها العجيبة ورواياتها الأسطورية قد شغلت باله فجمع أخبارها وملأ كتبه بقصصها، ومنها أن لكل هرم روح حارسة تحميه".. فوكّل بالهرم البحري (الأوسط) روحًا في صورة امرأة عارية لها ذوائب تصل إلى الأرض، فإذا أرادت أن تستفز الإنسي ضحكت في وجهه وجرَّته إلى نفسها، فتطعمه وتسخر به، وحكى من رآها عريانة عند هذا الهرم أنه امتلاء قلبه رعبًا، وعدل عنها ولم يكلمها ولم تكلمه، ووكَّل بالهرم الذي إلى جانبه (الأكبر) روحانيًا في صورة غلام أمرد أصغر عريانًا، وذكر جماعة أيضا أنهم رأوه على جانبه مرة بعد مرة، ثم يغيب عنهم، ووكل بالثالث وهو الصغير روحانيًا في صورة شيخ في يده مبخرة، وهو يبخر بها، وعليه ثياب الرهبان، ذكر قوم من أهل الجيزة أنهم رأوه مرات في أطراف النهار، فإذا قربوا منه يغيب عنهم، ولم يظهر فإذا بعدوا عنه عاد إلى حالته التي كان عليها.." كما يذكر ضمن روايته عن الهرمين بأن الفراعنة قد خصصوا الهرم الأكبر للفلك والثاني للطب والعلاج.

ويخرج المقريزي برواية أخرى قصّها عن الهرم مفادها أن عشرين شابًا أرادوا اقتحام الهرم والوصول إلى الحجرة السفلية فتزودوا بالطعام والشراب والحبال والمسارح ثم دخلوا الهرم واستطاعوا الوصول إلى الممر الهابط، حيث الخفافيش تحلق فوق رؤوسهم وهي في حجم الصقور، لكنهم استطاعوا الوصول إلى فتحة أتت منها رياح باردة أطفأت نيران مسارجهم، وبالنزول إلى تلك الفتحة رأوا حجرًا عظيمًا من الأحجار الثمينة اعتقدوا أنهم سوف يجدوا جسد الملك وكنوزه خلفه فقاموا بربط أحدهم وأسقطوه إلى الأسفل ولكن انهارت جوانب الفتحة عليه وسمعوا صرخاته مع صوت عظامه المهشمة حتى أدركهم صوت رهيب جعلهم يغشى عليهم، وبمجرد استعادتهم وعيهم خرجوا مسرعين في فزع شديد جعل بعضهم يسقط في ظلمة الفتحة ويفقد حياته، ومن نجى منهم خرج خارج الهرم وجمعوا أنفسهم للتغلب على فزعهم، ولكن فجأة خرج عليهم صاحبهم الذي سقط في الفتحة وهو يتلفظ بكلمات غير مفهومة ثم مات. فذهب رفقائه إلى أحد الحكماء من صعيد مصر ليسألوه عن معنى ما قاله صديقهم قبل موته، فرد الحكيم بأنها تعني هذا جزاء من يبحث عما ليس له.

ويقرر أبو الصلت "أن الأهرام والبرابي فإنها من الآثار التي حيرت الأذهان الثاقبة واستعجزت الأفكار الراجحة، وتركت لها شغلا بالتعجب منها والتفكير فيها"، ولم يختلف عنه الهروي عن ذلك القول حيث قال "الأهرام من عجائب الدنيا وقد اختلفت الأقاويل بين الناس فيها، وفيمن بناها وما أريد بها"، وأجمل المقدسي الآراء التي دارت في عصره حولها فقال "سمعت في الأهرام أشياء مختلفة؛ فمنهم من قال: هما طلسمان ومنهم من قال: كانتا أهراء يوسف، وقيل بل كانت هي قبورهم وقرأت أنهما للرمل المحبوس"، ويستقر رأي المقدسي على أنهما مقابر "وهكذا للناس في أمرها اختلاف: فمنهم من يجعلها قبورًا لعاد وبنيه ومنهم من يزعم غير ذلك"، وهو يشابه ما كتبه المسعودي في أن الهرمين الكبيرين بالجيزة هما مقبرتي ملوكها الأوائل شداد وشديد بن عاد، وذلك حسبما ذكر الدكتور شريف شعبان في كتابه"أشهر خرافات الفراعنة"، والذي صدر عن دار ن للنشر والتوزيع.